تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)

تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)

الوصف

                                                    نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم

                                                           (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)

قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}.

قد يتوجه أحدنا إلى أحد الأشخاص يدعوه إلى الله، وُيرغبه في الإسلام، ويواصل نصحه وتذكيره ووعظه، ويحرص على هدايته واستقامته وصلاحه، ولكن هذا الشخص يقابل كل ذلك بالصد والرفض والإعراض، فيصاب الداعية بالهمّ والحزن لخسارة الشخص المدعو.

وقد يَعْرض للداعية أحدهم في هذا الجو، ويعذله ويلومه -بل ويُخطئه- لما قام به، ويبين له عبث جهوده في الدعوة وضياعها، ويستشهد على كلامه بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

ومعنى هذه الآية -على حسب فهم الناصح العاذل- أنه لا فائدة من الدعوة والنصح والتذكير والبيان، وأن الناس لن يستجيبوا لذلك، لأن الله لا يريد أن يهديهم، فلماذا يُتعب الداعية نفسه معهم؟.

إذا ما قمت تدعو شخصاً إلى الله، يقف أمامك أحدهم ويقول لك: دَعْه، لا تَدْعُهُ، فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.

وقد تجلس في مجلس، وتذكر أحد العصاة المذنبين، وتعلن عن رغبتك في دعوته ونصحه وتذكيره، فيقطع عليك أحدهم رغبتك، لأنك لا تهدي من أحببت.

وقد ترى أحد العصاة فتدعوه إلى الله، فيقول لك: دَعْني يا أخي ولا تَدْعُني، إنك لا تهديني، لأن هدايتي ليست بيدك بل بيد الله، والله لا يريد أن يهديني، ويحتج عليك بالآية: {إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أَحْبَبْتَ}.

كل هؤلاء يجعلون هذه الآية مانعةً من الدعوة إلى الله، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتقديم الهداية لهم، ويجعلونها داعية إلى القعود واعتزال الناس.

وهذه أفهام خاطئة للآية، ومحرِّفة لمعناها.

وحتى نعرف معنى الآية ونقوم بالفهم الصائب لها، لابد من معرفة سبب نزولها: روى مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرتْ أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملَّة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.

وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

من سبب النزول نعرف الهداية التي نفت الآية أن تكون بيد الرسول عليه السلام -والدعاة من بعده- إنها هداية التوفيق للإيمان وقذفه في القلوب، وهذه لن تكون بيد البشر، بل بيد الله وحده سبحانه.

أما هداية الدعوة والتبليغ، ونشر الإسلام بين الناس ونصحهم ووعظهم، فهذه بيد البشر، واجبةٌ على كل مسلم حتى قيام الساعة.

وكم يعجبني كلامٌ رائعٌ للإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الرائع: " المفردات في غريب القرآن " عن الهداية وأنواعها، وما كان منها بيد البشر وما لم يكن قال: " الهداية دلالة بلطف، ومنه الهدية ".

وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه: 

الأول: هداية الفطرة: وهي الهداية التي عمّ بجنسها كل مكلف، من العقل والفطنة والمعارف الضرورية. كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}.

الثاني: هداية الدعوة: وهي التي جعلها الله عن طريق دعوتهم إليه، على لسان الأنبياء والدعاة والمصلحين. قال تعالى: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدون بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَروا وَكانوا بِآياتِنا يوقِنون}.

الثالث: هداية التوفيق والتثبيت، التي يمنحها الله لمن اهتدى إليه، وسار في طريق الهدى، من المؤمنين الصالحين. قال تعالى: {وَالذينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُم}.

الرابع: الهداية إلى الجنة: حيث يهدي الله المؤمنين يوم القيامة، إلى منازلهم في الجنة. وهناك عندما يصلونها ويتنعَّمون فيها، يشكرون الله أن هداهم لها. {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ}.

وهذه الهدايات الأربع مترتبة على بعضها البعض:

فإن من لم تحصل له الأولى -وهي هداية الفطرة والعقل- لا تحصل له الثانية، بل لا يصحّ تكليفه.ومن لم تحصل له الثانية -هداية الدعوة- لا تحصل له الثالثة ولا الرابعة.

ومن حصلت له الرابعة حصلت له الثلاث التي قبلها. ومن حصلت له الثالثة فقد حصلت له الاثنتان اللتان قبلها.وقد تنعكس. فالإنسان قد تحصل له الأولى ولا تحصل له الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة.

والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق -يعني الهداية الثانية وهي هداية الدعوة- دون سائر أنواع الهدايات.

وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {وَإنَّكَ لَتَهْدي إِلى صِراطٍ مُسْتَقيم}.

يعني تدعو. وقوله تعالى: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنا}، يعني يدعون بأمرنا. وقوله تعالى: {وَلكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}. يعني لكل قومٍ داعٍ يدعوهم إلى الله.

وكل هداية ذكر الله أنه منع الظالمين والكافرين منها، فهي الهداية الثالثة، وهي التوفيق الذي يختصّ به المهتدون، والرابعة وهي الثواب في الآخرة وإدخال الجنة.

وعلى هذا يُحمل قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

وكل هداية نفاها الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن البشر، وذكر أنهم غير قادرين عليها ما عدا الهداية الثانية وهي الدعوة. فالهدايات المنفيَّة عن البشر الدعاة هي الأولى -العقل والفطرة-، والثالثة -التوفيق-، والرابعة -إدخال الجنة-.

فالدعاة عاجزون عن منح العقل للناس، وعاجزون عن منح التوفيق والثبات للناس، وعاجزون عن منح الجنة للناس. ولكن الدعاة مطالبون بتقديم الدعوة للناس - وهي الهداية الثانية.

وإلى الهدايات الثلاث المنفية عن البشر أشارت آيات من القرآن.

قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

وقال تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى}.

وقال تعالى: {وَما أَنْتَ بِهادِ العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}.

وقال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}.

وقال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ}.

وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

هذه خلاصة كلام الإمام الراغب عن الهدى والهداية، أوردناه بتصرف واختصار، وهو كما نرى رائع ودقيق وصائب.

بعد هذا الكلام نقرر أن الداعية لا يملك أن يمنح الإيمان للمدعوّين، أو أن يقذفه في قلوبهم، لأن هذا مما اختصَّ به الله سبحانه. وعلى هذا تحمل هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.

وكأن الله يقول للرسول عليه السلام -ولكل داعيةٍ من بعده- إنك لا تستطيع أن تجعل من أحببت من البشر مؤمناً، ولا أن تُدخل الإيمان في قلبه. إن هذا الأمر بيد الله، فهو الذي يهدي للإيمان من يشاء، بمعنى أنه هو الذي يقذف الإيمان في قلب من يشاء -وفق السنن الربانية الدائمة في الهداية والإضلال، التي تقرر للإنسان الإرادة والاختيار لطريق الهدى أو طريق الضلال، وكوْن هذا الاختيار الإنساني لأحد الطريقين، موافقٌ لما في علم الله الأزلي، ومحقق لإرادة الله ومشيئته-.

ولذلك فإن قلوب البشر جميعاً بيد الله، والدعاة لا يملكون أن يُكرهوا واحداً منها على الإيمان. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}. وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}.

وإذا كان الدعاة لا يملكون هذا النوع من الهداية -الذي نفته عنهم آية القصص موضوع البحث- فلا يعني هذا أن يقعد الدعاة عن الدعوة، وأن يتوقفوا عن البيان والنصح والتذكير، وأن يتركوا الناس لأنهم لا يملكون هدايتهم -كما قد يفهم بعضهم خطأ- فإن البيان والنصح والتذكير واجبٌ على كل مسلم، وقد مكَّنه الله منه، وجعله في وسعه، وضمن إمكاناته واختصاصاته.

وقد كثرت الآيات الصريحة التي تجعل هذا في يد الداعية. نختار منها ما يلي:

قال إبراهيم عليه السلام لوالده: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}.

وقال موسى عليه السلام لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.

وقال مؤمن آل فرعون مخاطباً فرعون وقومه: {يا قَوْمِ اتَّبِعونِ أَهْدِكُمْ سَبيلَ الرشاد}.

وقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}.

وقال تعالى عن الدّعاة الصالحين من بني إسرائيل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

وجعل هذا الأمر في يد كل الدّعاة الصالحين: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.

وهذا القرآن العظيم الحبيب هادٍ يهدي الآخرين. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.

هذه الهداية التي جعلتها الآيات السابقة بيد الدعاة هي هداية الدعوة إلى الله، والتذكير بالحق، والدلالة على الخير، والإرشاد إلى الصواب. وهم مأجورون عندما يقومون بها، ولو لم يستجب المدعوون لهم. وهم آثمون معذَّبون إن تخلّوا عنها، بحجة أن المدعوين لم يستجيبوا لهم.

أجر الدعاة على هذه الهداية، متحقق عند القيام بها، وأدائها -بصدق وإخلاص وهمة وجدِّية- وهذا الأجر معلَّق على قبول المدعوين واستجابتهم لهم.

على المدعوين القيام بالخطوة التالية، وهي أن يستجيبوا للدعاة، وأن يقبلوا منهم هديتهم الدعوية لهم، وأن يهتدوا بالهدى الذي دلّوهم عليه وأرشدوهم إليه. عليهم أن يفعلوا ذلك ليكونوا من المهتدين النّاجين الفائزين.

وهذا الاهتداء الذي يقومون به إنما هو لأنفسهم ولمصلحتهم.

قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.

بهذا البيان نقوم بالجمع والتوفيق بين الآيات المتقابلة -والتي تبدو متعارضة لذوي النظرة العجلى- وبهذا نفهم أنواع الهداية في القرآن، وما جعله في مقدور البشر منها، وما نفاه عنهم منها. وبهذا نعلم أن آية القصص -موضوع البحث- من النوع الثاني، وأن هناك آيات كثيرة من النوع الأول.