تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)

الوصف
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم
(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا}.
وهذه آيةٌ أخرى يعتمد عليها بعض المسلمين، ويجعلونها حجةً ودليلاً ومستنداً لهم، على تقصيرهم في أداء الواجبات والتزام الأوامر وترك المحظورات. إذ أنها تبيح لهم ذلك. وتجعلهم في منأى عن المسؤولية والعقاب جزاء هذا التقصير والتفريط.
إن معناها عند هؤلاء: إن الإنسان ليس مكلفاً بالإسلام كله، والشريعة كاملة، وليس مطالَباً بأن يلتزم بالواجبات كلها، ويترك المحظورات جميعها.
ولكن الآية تبيح له -بل تَشْرع وتُجَوِّز- أن يأخذ من الإسلام والشريعة ما يدخل ضمن وسعه وطوقه وقدرته. مهما كانت درجة الوسع والطوق والقدرة، حتى لو كانت في أدنى مستوياتها وأضعف حالاتها.
الواجبات التي أمرنا الله بها يتناولها هؤلاء على هذا الأساس، ويتعاملون معها على هذه القاعدهّ. فما كان يقدر عليه منها يفعله، وما ضعفت همَّته وإرادته ونفسه عنه تركه، و {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
وهذه الواجبات ليس مطالَباً بها دائماً، بل يختلف هذا باختلاف ظرفه وهمته وطاقته ووسعه. فما كان واجباً عليه من قبل أصبح غير مطالب به الآن، و {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
بعض الواجبات يخاطَب بها غيره، أما هو فإنه مُعفىً منها، و {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
والمحظورات في هذا الدين، لا يطالَب بتركها جميعها، بل يَنظر لها من زاوية " الوسع "، ولهذا لو فعل بعضها فلا شيء عليه، و {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
وهكذا تتم تجزئة الإسلام وتقسيم الأوامر، ليتناول كل مسلم منها ما يدخل ضمن وسعه، وُيعفى من ما يظنه فوق طاقته. وابحث بعد ذلك عن الواجبات في واقع التطبيق، وعن المحظورات من حيث الاجتناب والترك!.
وحتى نصوِّب هذا الفهم الخاطئ، وحتى نقدم المعنى الصحيح والفهم الصائب - إن شاء الله - لهذه الآية. فلا بد أن نعرف السياق الذي وردت فيه أولاً، ثم مناسبة نزولها ثانياً، لأن الاطلاع على هذين الأمرين -سياق الآية، وسبب نزولها- ضروري لفهمٍ أدق، واستنتاجٍ أصوب.
هذه الآية الأخيرة من سورة البقرة، وردت ضمن هذه الآيات: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
أما سبب نزول هذه الآيات، فهو ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله كُلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابيْن من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير. قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقْتَرأها القوم ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (قال: نعم) رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا (قال: نعم) رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ (قال: نعم) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (قال: نعم)}.
وفي روايةٍ أخرى أوردها الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ}، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قولوا: سمعنا وأطعنا وسلَّمنا "، فألقى الله الإِيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا. (قال: قد فعلت) رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا (قال: قد فعلت) رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. (قال: قد فعلت)}.
وكم تعجبني فطنة ودقة وذكاء الإمام مسلم، عندما أورد الحديثين ضمن باب جعل عنوانه: " بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق ".
بعد هذا البيان نستطيع أن نقول: إن هذه الآية نسخت حكماً شاقاً جداً، تلقاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة والقبول -رغم مشقته- حيث قررت الآية الأولى في هذه المجموعة: أن كل ما يعمله الإِنسان محاسبٌ به، سواءٌ كان هذا قولاً، أو فعلاً، أو فكرةً وهاجساً في الضمير، سواءٌ كان ظاهراً في الخارج بصورة عملٍ أو كلام، أو كان مخفياً في النفس في صورة خاطرٍ أو وسواسٍ أو هاجس.
وإذا كان المسلم بمقدوره أن يتحكم في قوله أو عمله، بحيث يكون موافقاً للشرع، فإنه يكاد يكون مستحيلاً عليه أن يتحكم في مشاعره وأفكاره وخطراته ووساوسه، فقد يخرج في واحدة من هذه المسائل عن توجيهات الشرع، فإذا حاسبه الله على هذه الأمور اللاإرادية، فقد يكون هذا تكليفاً بما لا يطاق، وتكليفاً بالمحال.
ولذلك شق معنى هذه الآية على الصحابة، وتكلموا في شأنه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلب منهم السمع والطاعة والاستسلام ولو كان الحكم شاقاً يكاد لا يطاق، ففعلوا. ولما علم الله ذلك منهم، أنعم عليهم بنسخ هذا الحكم الشاق، وجاء هذا النسخ في كلام واضح صريح: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} إذن ناسخة لمحاسبة العبد على وساوسه وخطراته وخيالاته، لأن ذلك ليس في وسع العبد وقدرته وطاقته، فهذه الآية خاصةٌ في معناها، وهذا الخصوص مأخوذٌ من سياقها ومن الإِلمام بملابسة نزولها. وطالما أن ذلك الحكم منسوخٌ فإن الله لم يكلفنا به، أما إذا كلفنا الله بحكمٍ شرعيٍّ، ولم ينسخه، فإن هذا الحكم في وسعنا وطاقتنا، وإن الله يعلم أن بمقدورنا القيام به، ولذلك لم ينسخه.
إذن هذه الآية لا يجوز أن نطلقها على الأحكام الشرعية التي كلَّفنا الله بها ولم ينسخ هذا التكليف، ولا يجوز أن نعطِّل بها هذه الأحكام ونلغيها، ونجعل الالتزام بها خاضعاً للطاقة الضعيفة، والهمَّة المريضة، والوسع الكسول.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، معناها من خلال المفهوم القرآني: إن الله سبحانه عادلٌ في أحكامه في عباده، وإنه لا يكلِّفهم بما لا يطيقون، ولا يطالبهم بالمستحيل، ولا يريد من التشريعات إرهاق عباده، أو إيقاعهم في العسر والحرج والإثم والتقصير، فإن الله سبحانه {وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج}، و {يُريدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ العُسْر}، وإن الله عليمٌ حكيم، لطيف خبير، يعلم طاقة النفس الإنسانية ومقدار تحملها ووسعها: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَق وَهُوَ اللطيفُ الخَبير}. ولذلك أوجب عليها التكاليف الشرعية، وهو يعلم أنه بمقدور هذه النفس الالتزام بها، وهو يعلم أنها كلها ضمن " وسعها " وطاقتها.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، تدعو إلى مضاعفة العمل الصالح، وتوثيق الالتزام بالتكاليف. وليس إلى التلّفت منها، والترخص في أحكامها.
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، عملٌ لا كسل، والتزامٌ لا تفلُّت، ووفاءٌ لا ترخُص، وإحسانٌ لا تَسيُّب.