نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الواحد والستون ( تأديب الله للمؤمنين )

نداءات الرحمن  لأهل الإيمان  _النداء الواحد والستون  ( تأديب الله للمؤمنين )
762 0

الوصف

    النداء الواحد والستون

  تأديب الله للمؤمنين  

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ (الأحزاب: 41-44). 

  * موضوع الآيات: 

تأديب الله للمؤمنين وعنايته بهم – وتعظيم الله تعالى وإجلاله بالأذكار والتسابيح الكثيرة. 

*  معاني الكلمات:

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا): آمنوا بالله رَبًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا. 

 (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا): أي بقلوبكم وألسنتكم في أغلب الأوقات بالتعظيم والتمجيد والتهليل والتحميد. 

 (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا): أي نزهوه بقول: سبحان الله وبحمده. أول النهار وآخره، وتخصيصها بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين بملائكة الليل والنهار. 

 (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ): أي يرحمكم. 

 (وَمَلاَئِكَتُهُ): أي يستغفرون لكم. 

 (لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ): من ظلمات الكفر والمعصية إلى نور الإيمان والطاعة. 

 (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا): أي كان الله وما يزال رحيمًا بعباده المؤمنين. 

 (تَحِيَّتُهُمْ): أي تحية الله للمؤمنين بلسان الملائكة هي: السلام. 

 (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ): يوم لقائه عند الموت أو الخروج من القبر أو دخول الجنة. 

 (سَلاَمٌ): إخبار بالسلامة من كل مكروه وآفة. 

 (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا): هي الجنة. 

*  سبب نزول الآية:

 (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (المائدة: 11)، أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودًا، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخاف على ذراينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة، ولا أشد ريحًا منها. فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم: إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا إذن له، فيتسللون، إذا استقبلنا النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا رجلًا، حتى أتى علي، فقال: "ائتني بخبر القوم" فجئت، فإذا في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبرًا. 

فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم، وهم يقولون: الرحيل الرحيل. فجئت فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (الأحزاب: 9). 

  * سبب النزول:

 (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي) أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: نزلت (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (الأحزاب: 56)،  قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركتنا فيه.  فنزلت (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ) 

  * المناسبة:

بعد بيان ما ينبغي أن يكون عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مع الله وهو التقوى والإخلاص، وما ينبغي أن يكون مع أهله وأقاربه بقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ) (الأحزاب: 59)... الآية، وهو تحقيق الحرية والاستقرار الزوجي، أمر الله تعالى عباده المؤمنين بما أمر به أنبياءه المرسلين من تعظيم الله وإجلاله بذكره وتسبيحه في أغلب الأوقات، ومختلف أنواع الطاعات، بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) ليحقق لهم أجزل الثواب، ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. 

*  المعنى الإجمالي:

هذا النداء الكريم من رب رحيم يوجه إلى المؤمنين الصادقين، وجهه إليهم ربهم ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم، ويحفظون به من عدوهم وعدو أبيهم، إبليس عليه لعائن الله، ألا إنه ذكر الله تعالى، إذ قال لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) أي لا حد له ولا حصر، إذ هو الطاقة التي تساعد على الحياة الروحية (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) البكرة من طلوع الفجر إلى الضحى، والأصيل من الزوال إلى غروب الشمس، وقد بَيَّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم أنواع التسبيح منها: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وأن من سبح هذا التسبيح بهذا العدد غفر له ما تقدم من ذنبه، إن قالها بعد الصبح أو بعد العصر فاز بهذا الأجر، وهو مغفرة ذنوبه وأعظم به من أجر، ومنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة. وذكر صلى الله عليه وسلم أن من أتى بهذا الذكر كان كمن أعتق عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وظل يومه ذلك كله في حرز من الشيطان، ولم يأت أحد بمثل ما أتي به من الأجر إلا من قال مثله وزاد، ومنها: التسبيح دبر الصلوات الخمس نحو: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين فهذه تسع وتسعون تسبيحة وختام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ومما يدل على أفضلية ذكر الله تعالى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل". 

وقوله تعالى في الآية الثالثة من آيات هذا النداء (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي هو الذي يثني عليكم بخير بين الملائكة ويرحمكم برحمته الواسعة. وقوله ( وَمَلاَئِكَتُهُ) أي وملائكته تعالى تصلي عليكم أيضا، وصلاة الملائكة هي الدعاء لكم بخير والاستغفار لكم. كما قال تعالى في حملة العرش أنهم يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا، الآية من سورة المؤمن (غافر) وقوله تعالى: (لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي ليخرجكم سبحانه وتعالى من ظلمات الكفر والذنوب والمعاصي إلى نور الإيمان والطاعات، فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هي عامل الإخراج من الظلمات المهلكة إلى النورالهادي إلى النجاة من مهالك الحياة. وقوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) هذا إنعام آخر وفضل زائد على ما تقدم من صلاته تعالى وصلاة ملائكته عليهم. وهو أنه بالمؤمنين رحيم أي لا يعذبهم ولا يشقيهم ولا يذلهم في الدنيا ولا يخزيهم. 

وقوله تعالى في الآية الرابعة من هذا النداء الكريم: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ) أي ما يحيون به يوم موتهم ولقاء ربهم وهو السلام. فملك الموت لما يأتي لقبض روح المؤمن يسلم عليه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه. إذ روي عن البراء بن عازب –رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ) قال: فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه. وتحييهم الملائكة في الجنة بالسلام لقوله تعالى: ( وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) والرحمن جل جلاله وعظم سلطانه يسلم عليهم، إذ قال تعالى: (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبِّ رَّحِيمٍ) أي أمان لهم وأمنة من كل خوف وحزن، إذ أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لولاية الله تعالى لهم. وقوله تعالى في ختام هذا النداء: (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) أي هيأ لهم وأحضر أجرا كريما وهو الجنة دار السلام. فسبحان الله ما أكرمه، وسبحان الله ما أسعد المؤمنين، فبفضيلة الإيمان، وطاعة الرحمن طلب منهم (عز وجل) أن يذكروه كثيرا وأن يسبحوه بكرة وأصيلا، فأعطاهم ما لا يقادر قدره، فسبحانه من إله كريم ورب رحيم. 

  من الأذكار:

كان ابن تيمية رحمه الله يذكر الله بعد صلاة الفجر حتى الضحى تقريبًا، فأشفق عليه تلميذه ابن القيم، فقال: هذه غدوتي، ولو تركتها لذهبت قوتي. 

وقال في موضع آخر: حاجة القلب للذكر كحاجة السمك للماء – فإذا أخرج السمك من الماء مات – فكذلك القلب إذ ترك الذكر. 

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنواع التسبيح منها: سبحان الله وبحمده مائة مرة. 

وأن من سبح الله هذا التسبيح بهذا العدد غفر له ما تقدم من ذنبه. وإن قالها بعد الصبح أو بعد العصر فاز بهذا الأجر وهو مغفرة ذنوبه، وأعظم به من أجر. ومنها: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة، كان كمن أعتق عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه مائة خطيئة، وظل يومه ذلك كله في حرز من الشيطان، ولم يأت أحد مثل ما أتى به من الأجر، إلا من قال مثله أو زاد. ومنها: التسبيح بعد الصلوات الخمس: سبحان الله (33)، والحمد لله (33)، والله أكبر (33)، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ومما يدل على أفضلية ذكر الله تعالى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكارها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟" قالوا: وما هو يا رسول الله قال: "ذكر الله عز وجل".   

وفي قوله سبحانه: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) أي ما يحيون به يوم موتهم، ولقاء ربهم هو السلام، فملك الموت لما يأتي لقبض روح المؤمن يسلم عليه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه. 

إذ روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في تفسير هذه الآية (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ) قال: فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه، وتحييهم الملائكة في الجنة بالسلام، لقوله تعالى: ( وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 23-24)، والرحمن جل جلاله يسلم عليها، إذ يقول سبحانه ( لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلاَمٌ قَوْلًا مِّن رَّبِّ رَّحِيمٍ) (يس: 57-58)، أي أمان لهم من كل خوف وحزن، فأهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لولاية الله لهم. 

  من وحي الآيات: ذِكْر الله مدخل للسكينة

قال بعض العلماء: الأمر في هذه الآية ( اذْكُرُوا) فعل أمر، وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، إلا أن المعني بهذا الأمر ليس الذكر فحسب، بل الذكر الكثير، لأن الله عزوجل حينما وصف المنافقين قال: ( وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا )(142)  (النساء: 142)، فالمنافق يذكر فقط، أما المؤمن فيذكر ذكرًا كثيرًا. قال صلى الله عليه وسلم: "من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق"  (أخرجه الطبراني في الصغير)، وقال  "برئ من الشح من أدى زكاة ماله"  (أخرجه الطبراني)، وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده. 

ولا يَنصبُّ هنا الأمر على الذكر، بل ينصبُّ على الذكر الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى فيقول: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى"  (رواه الترمذي). 

وللذكر فوائد كثيرة، منها أن الذكر يطرد الشيطان ويرضي الرحمن، ويزيل الهم والغم عن القلب، ويجلب له الفرح، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: الذكر يطرد الشيطان ويقمعه، ويرضي الرحمن ويدني منه، ويزيل الهم والغم عن القلوب، ويجلب له الفرح والغبطة، قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ )(28) (الرعد: 28)، والسعادة كلها بذكر الله، والمعيشة الضنك بالإعراض عن ذكر الله قال تعالى:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (124)  (طه: 124). 

إنه كلام خالق الأكوان، فالمال وحده لا يسعد، وكذلك المرأة، والمنصب، والصحة، جميعها لا تحقق وحدها السعادة. والله عزوجل يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال، والقوة، للكثيرين من خَلقه، ولكنه يعطي لأصفيائه المؤمنين السكينة، التي تطمئن بها القلوب. فالذكر يقوي القلب والبدن، لأن الجسم متعلق بالنفس. ومعظم أمراض الإنسان من شدة نفسية وتوترات تؤثر في قواه الروحية والبدنية. 

والذكر يورث محبة الله التي هي روح الإسلام، وقطب رحى الدين، ومدار السعادة والنجاة، ويذيب قسوة القلب ويبعد عنه الغفلة؛ فالقلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة حتى يغدو كالحجر، فإذا ذكر المؤمن ربه ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص بالنار. قال بعض العلماء: ذكر الله عزوجل شفاء، وذكر الناس داء. 

ومن حمل همّ نفسه وحرص على اتصالها بالله أعطاه الله كل ما يتمنى وزيادة، يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة: الصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم وجدتم، وإلا فالباب مغلق فابحثوا عن السبب. 

وعن عمر بن الخطاب: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين" (من الدر المنثور). 

اجلس جلسة مع من تحب، واذكروا الله عزوجل، أو آية قرآنية، أو حديثًا شريفًا، أو موقفًا للنبي الكريم، أو لصحابي جليل. إنك بلا شك ستشعر أن هذه الجلسة مباركة، فيها تجليات وسرور. فيما الجلسة التي تخلو من ذكر الله، تكون حسرة على من فرط بها، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا تحسّر عليها يوم القيامة"  (ورد في شعب الإيمان). قد يكون البيت والطعام متواضعًا، والضيافة قليلة جدًا، لكن صاحبه يقول لك: نحن في جنة. وأحيانًا قد تكون في أعظم مكان وأجمله، لكنك تشعر بانقباض أهله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده (رواه مسلم). 

وقال: "ما جلس قوم مجالسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم"  (رواه الترمذي)، أي نقصًا في حسناتهم وتبعة يحاسبون عليها، وقال صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات: (مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلَّا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ)  (رواه أبو داود). 

إنّ المؤمن لا يفضي بسره للغافل عن ذكر الله؛ حتى لا يشمت به. ولا يستشيره في أموره؛ لأنه يدله على المعصية، قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (28)  (الكهف: 28)، ومعنى أغفلنا قلبه: أي وجدناه غافلًا. توضّح هنا كي لا يتوهم بعضهم أن الله خلق فيه الغفلة، وهو معنى مستحيل على الله. فلو قلت: عاشرت القوم فما أجبنتهم، فإنك تعني ما وجدتهم جبناء، ولو قلت: عاشرت القوم فما أبخلتهم، لكنت تعني: ما وجدتهم بخلاء. 

ومن ذكره الله عزوجل منحه السكينة والسعادة والرضا، قال تعالى:(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (البقرة: 152)، فذكرك لله عزوجل أداء لواجب العبودية، لكن ذكر الله لك فهو منحك الحكمة، وأعظم عطاء من الله عزوجل أن تكون حكيمًا، والدليل قوله تعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة: 269)، وإذا ذكرك الله عزوجل أعطاك السكينة، التي تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء. فإذا ذكرك الله عزوجل أعطاك الرضا، وقوة الشخصية، فلا تنافق، لأن مصيرك مع الله عزوجل لا مع غيره. وتأكد أن كلمة الحق لا تقطع رزقًا ولا تقرِّب أجلًا. 

والإيمان مرتبة علمية وأخلاقية وجمالية. "جاء رجل إلى أبي أمامة رضي الله عنه فقال: يا أبا أمامة، إني رأيت في منامي أي الملائكة تصلي عليك كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست. قال أبو أمامة: اللهم غفرًا، دعونا عنكم، وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة، وأنا أقول لكم هذا الكلام، ثم قرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا )(43)  (الأحزاب: 41) 

(مستدرك الحاكم صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه). 

ونذكر في هذا السياق رأي سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الذكر، إذ قال: "إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر إلا الذكر، فإن الله عزوجل لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله". 

فأنت تستطيع أن تصلي جالسًا، أو مضطجعًا، أو بإيماءات من رأسك، أو بحركات جفنيك، ولكن لا بد من أن تذكر الله في السراء، والضراء، والسفر والحضر. هذا الأمر يدور معك حيثما درت، وفي الأحوال كافة؛ وأنت في الفراش، وأنت جالس مع أهلك تأكل، وأنت في الطريق تمشي، وفي الليل والنهار، وفي البر والبحر، والجو، وفي حال الغنى والفقر، والمرض والصحة، والسر والعلانية. 

وقد يسأل سائل: ما أنواع الذكر؟ فنقول: للذكر أنواع، منها: الباقيات الصالحات، قال تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) (الإنسان: 25)، والباقيات الصالحات هي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. 

ويعد الاستغفار من الذكر، قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (12)  (النوح: 10 – 12)، وكذلك الدعاء يعد من الذكر، قال تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: 186). 

ومن يبحث في القرآن أو كتب الفقه عن أمر الله ونهيه فهو ذاكر لله، والصلاة ذكر لله، قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (14) (طه: 14)، وقال: ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (78)  (الإسراء: 78). 

ومن أنواع الذكر؛ التفكَّر بالإنسان وبمخلوقات الله، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )(11)  (الأنعام: 11)، وقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53). 

  *  ما يستفاد من الآيات:

1- وجوب ذكر الله تعالى بالقلب واللسان ليلًا ونهارًا وفي كل الأوقات إلا في حال دخول الخلاء لقضاء الحاجة. 

2- بيان فضل الله على عباده المؤمنين المتقين بصلاته عليهم وملائكته ورحمته لهم. 

3- تقرير عقيدة البعث والإيمان باليوم الآخر بذكر ما يتم فيها من سلام الله تعالى على أهل الجنة، ولقاء الله يكون يوم القيامة. 

4- بشرى للمؤمنين المتقين بالجنة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)(فصلت: 30).