نداءات الرحمن لأهل الإيمان _ النداء الثاني والخمسون _ (حرمة أكل أموال الناس بالباطل )

نداءات الرحمن  لأهل الإيمان  _  النداء الثاني والخمسون _   (حرمة أكل أموال الناس بالباطل )
531 0

الوصف

  النداء الثاني والخمسون

  حرمة أكل أموال الناس بالباطل  

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾ (التوبة: 34-35) 

  * موضوع الآيات: 

في حرمة أكل أموال الناس بالباطل، والوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة ولا يخرج زكاتها. 

*  معاني الكلمات:

 (الأحْبَارِ): علماء اليهود. 

 (وَالرُّهْبَانِ): عباد النصارى والقسيسون علماؤهم. 

 (لَيَأْكُلُونَ): المراد التصرف فيها بكل أوجه الانتفاع، وعبر عن ذلك بالأكل والمراد به الأخذ والانتفاع؛ لأنه أهم حالات الانتفاع. 

 (بِالْبَاطِلِ): أي بدون حق كالرشاوي في الحكم. 

 (وَيَصُدُّونَ): يمنعون عن سبيل الله، أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام، الذي هو السبيل المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى. 

 (يَكْنِزُونَ): يجمعون المال ويدفنونه حفاظًا عليه، ولا يؤدون حقهن، والكنز هو خزن الأموال في الصناديق دون إعطاء حق الله فيها. 

 (فِي سَبِيلِ اللهِ): أي لا يؤدون فيها حق الزكاة. 

 (فَبَشِّرْهُمْ): أخبرهم بعذاب أليم أي موجع، وهو تهكم بهم؛ لأن البشارة تكون في الخير لا في الشر. 

 (فَتُكْوَى): الكي هو إلصاق الحديد الحار بالجسم حتى يحترق. 

 (يُحْمَى عَلَيْهَا): لأنها تحول إلى صفائح، يحمي عليها، ثم تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. 

 (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ): أي ما يقال لهم عند كيهم بها: هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخًا لهم وتقريعًا لهم. 

  * سبب النزول:

سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ) .. الآية قال الواحدي: نزلت في العلماء والقراء من أهل الكتاب، كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم، وهي المأكل الذي كانوا يصيبونه من عوامهم. 

وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ، قيل: نزلت في أهل الكتاب خاصة وقيل: إنها نزلت من أهل الكتاب والمسلمين، وهو الصحيح. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا ألا يبقي لولده مالا بعده. فقال عمر رضي الله عنه: أنا فرج عنكم فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يانبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية؟ فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم" فكبر عمر رضي الله عنه ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته". 

  * المناسبة:

بعد أن وصف الله تعالى إلى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية لإدعائهم حق التشريع للناس وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تحقيرًا لشأنهم، ووصفهم سبحانه أيضًا بالبخل والشديد وحب كنز المال في صناديقهم والامتناع عن أداء الوجبات في أموالهم أردف ذلك بالوعيد الشديد كل من امتنع من إخراج الحقوق الواجبة من ماله من أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين. 

*  المعنى الإجمالي:

ينادي الله تعالى إلى عباده المؤمنين لما فيه سعادتهم وينهاهم عما فيه شقاوتهم، فها هو ذا سبحانه يحذر عباده المؤمنين ويخبرهم بحال أعدائهم من اليهود والنصارى، الذي يريدون دوما أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون. يخبرهم بحال رجال الدين منهم وهم الأحبار والرهبان، وأنهم ماديون صرفا وما شعار الدين الذين يحملونه إلا خدعة لعوامهم وجهالهم، إذ قال تعالى: (إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحْبَارِ) وهم علماء اليهود (وَالرُّهْبَانِ) وهم عباد النصارى (لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) أي بدون حق يبيح لهم أكل أموال الناس، إذ هم يأكلونها تحت ستار الكذب والحيل: كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران، لغلاة الذنوب والآثام، إلى غير ذلك من الحيل والكذب، وقوله تعالى: (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ) الذي هو الإسلام، وعلة صدهم عن الإسلام ليبقى أتباعهم من اليهود والنصارى سخرة لهم، يعيشون سعداء على حسابهم، إذ لو دخل أتباعه في الإسلام لحرموا سيادتهم عليهم وأموالهم منهم. وهذه حالهم إلى اليوم يحاربون الإسلام بكل وسيلة، وقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا إعلام آخر لعباده المؤمنين معلمًا ومحذرًا لهم، حتى لا يقعوا في مثل ما وقع فيه الأحبار والرهبان، إذا أخبرهم سبحانه إن الذين يكنزون الذهب والفضة سواء من الكافرين والمشركين أو من المسلمين، وذلك لحرمة كنز الأموال، وهي قوام الأعمال وأداة العيش الرغد في الحياة. فقد توعد الذين يكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله بالعذاب الأليم. وبين سبحانه كيفية تعذيب كانزي الذهب والفضة بها يوم القيامة، وهو أنها تحول إلى صفائح وتحمى عليها في نار جهنم، حتى تلتهب نارًا، ثم يكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم في يوم القيامة، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ومع هذا العذاب الحسي عذاب معنوي، حيث يقال لهم توبيخًا ولوما: (هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) وخصت هذه الأعضاء بالذكر، لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس مغتبطين بالثروة، ويعبسون في وجوه الفقراء، كيلا يعطوهم شيئًا، ويتنعمون على جوانبهم وظهورهم في أوساط النعمة، ثم إن الكي على الوجه أشهر وأشنع، وعلى الجنب والظهر وآلم وأوجع. ويقال لهم من قبل الملائكة: هذا جزاء ما كنزتم، ثم فذوقوا وبا ما كنزتم، فقد صار في الدنيا لغيركم وعذابه في الآخرة لا حقًا بكم. 

وهذه آفة كثير من المسلمين اليوم الذين لا يؤدون الزكاة، فلو أدوها على وجهها الشرعي حسب قسمة الله سبحانه في كتابه لما بقي فقير، ولصلحت أحوال الأمة، وقد ورد وعيد شديد في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لما نعي الزكاة – منها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، ثم يرى سبيلة: إما إلى الجنة، وإما إلى النار" وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: "من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه، ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 180). 

ومثله أيضا من كان عنده إبل أوغنم أو بقر فلم يؤت زكاتها فإنه يعذب في عرصات القيامة، إلى نهاية الحساب، ثم إلى جنة أو إلى نار، وتمثيل صورة العذاب في الآية والأحاديث حقيقة، ففي حال تمثل المال فيه ثعبانًا، وفي حال يكون صفائح من نار، وفي حال يكون رضفًا أي حجارة محماة لما يوجب على المسلم أن يتقي الله في نفسه وأن يؤدي زكاة أمواله طيبة به نفسه، حامدًا الله ربه الذي أعطاه هذا المال. 

ولنعلم أيها القارئ أن هذه الآية لما نزلت اضطرب لها المسلمون، وكبر عليهم أمرها، فقال عمر- رضي الله عنه_: أنا أفرج عنكم، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم". فكبر عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته"، أي في ماله وعرضه. وهذا الحديث العمري حقا نفس عن النفوس المؤمنة ما تجده من ألم في ادخار بعض المال. وحقا لو حرم الادخار ومنع كيف تنزل آيات الميراث. 

وتقسيم التركة على الوارثين: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكل من الأب والأم السدس إذا هلك الابن وترك ولدا، وللأم الثلث والباقي للأب إذا لم يترك ولدهما ولدا. وللزوجة الربع إذا لم يترك الزوج ولدا، ولها الثمن إن ترك ولدا، وللزوج الربع إن تركت زوجته ولدا، وله النصف إن لم تترك ولدا. ومن مات من رجل أو امرأة، ولم يترك أبا ولا أما ولا ولدا وإنما ترك أخا أو أختا لأم وعصبة فإن لكل واحد منهما السدس والباقي للعصبة، وإن ترك أكثر من أخ أو أخت لأم فهم شركاء في الثلث، والباقي للعصبة. ومن ترك أختا ولم يكن له ولد فلها النصف، وإن ماتت هي ولم تترك ولدا فهو يرث مالها كله. وإن مات هو وترك أختين فلهما الثلثان والباقي للعصبة كالأعمام مثلا، ومن ترك منهما إخوة رجالا ونساء، فإن الإخوة يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين كالوالد يموت ويترك بنين وبنات فإنهم يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا تقسم التركة إلا بعد إنفاذ الوصية وسداد الدين. هذه قسمة الله تعالى في مال الهالك. فلو كان كنز المال حراما فكيف ينزل القرآن بقسمته على النحو الذي فصلت؟ 

لذا الإجماع على أن المال المدخر إذا أخرجت زكاته لا يعد كنزا محرما يعذب به صاحبه، أما الذي لم يخرج زكاته سنويا فالعذاب لازم، وهذا مسلم يخرج حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" ومثله أيضا: "من كان عنده إبل أو غنم أو بقر فلم يؤت زكاتها، فإنه يعذب في عرصات القيامة إلى نهاية الحساب، ثم إلى الجنة أو إلى النار". 

ألا فلتذكر هذا أيها القارئ، ولتعلم الناس ما يجب أن يعلموه من دين الله، ولنحثهم على العمل به طلبا للنجاة، إذ الله شديد العقاب وسريع الحساب. 

*  ما يستفاد من الآيات:

1- بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهم أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم، يحاربون الإسلام، ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام. 

2- تحذير المؤمنين أن يسلكوا مسلك اليهود والنصارى وهي أن يبيعوا الآخرة. 

3- حرمة أكل أموال الناس بالباطل. 

4- حرمة جمع المال وكنزة وعدم الإنفاق منه وعدم أداء حقه. 

5- المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض. 

6- بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه سبيل الله، وهي عقوبة شديدة، كما مرت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.