نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الثاني والثمانون ( لوم وعتب من يقول ولا يفعل)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء الثاني والثمانون ( لوم وعتب من يقول ولا يفعل)
299 0

الوصف

النداء الثاني والثمانون

 لوم وعتب من يقول ولا يفعل  

قال تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف: 2-4).. 

  * موضوع الآيات: 

في لوم وعتاب من يقول ولا يفعل، وأن ذلك من موجبات مقت الله للعبد، وبيان حب الله تعالى للمجاهدين، في سبيله الثابتين في المعارك. 

*  معاني الكلمات:

 (لِمَتَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ): أي لأي شيء تقولون: قد فعلنا كذا وكذا، وأنتم لم تفعلوا والاستفهام هنا للتوبيخ والتأنيب. 

(كَبُرَ مَقْتًا): أي عظم مقتًا–والمقت أشد أنواع البغض من أَجْلِ ذنب أو معصية. 

 (أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ): أي قولكم ما لا تفعلون يبغضه الله أشد البغض. 

 (صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ): أي صافين – مرصوص متراص من غير فرجة أو متلاصق محكم. 

  * سبب النزول:

قال ابن عباس رضي الله عنه: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعمل به فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إليه: إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به، وإقرار برسالة نبيه، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فأنزل الله الآية. 

*  المعنى الإجمالي:

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) أي لم تَعدُونَ ولا تُوفُونَ، فهذا توبيخ وتقريع لكل من يعد ولا يفي، وقد أعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ أن آية المنافق ثلاث "إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" فجعل خلف الوعد من علامات النفاق، فلذا كان قوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ) استفهام معناه التأنيب والتوبيخ ومثل من يعد ولا يفي أي يخلف ما وعد به من يقول فعلت وهو لم يفعل أيضا، إذ قوله تعالى (لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) يحمل معنى لم تقولون فعلنا وأنتم لم تفعلوا كقول الرجل قاتلت وهو لم يقاتل، وطعنت وهو لم يطعن، أو أعطيت وهو لم يعط. وقوله تعالى: ( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ) أي أن قولكم نفعل كذا ولم تفعلوا مما يمقت عليه صاحبه أشد المقت أي يبغض أشد البغض والعياذ بالله تعالى من مقته وبغضه وغضبه. 

وقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) فيه إشارة واضحة إلى أن الذين وبخهم بقوله: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ) كانوا قد وعدوا بالجهاد، ثم تخلفوا عنه ولم يفوا بما وعدوا. كما يحمل إشارة أخرى إلى الذين انهزموا يوم أحد وفروا من المعركة. ولما كان تعالى يمقت أشد المقت المخلفين للوعد العظيم ذي الأثر الكبير كالوعد بالجهاد ولم يجاهدوا فإنه تعالى يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا متراصا لا فرجة فيه حال الزحف كالبنيان المرصوص أي المتلاصق بعضه ببعض لا فرجة فيه ولا خلل بين أجزائه. 

ولنستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بضحك الله تعالى إلى بعض عباده الصالحين فيقول: "ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال"، وكان بعض السلف يكرهون القتال على الخيل ويستحبون القتال على الأرض لقول الله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) وكان صاحب هذا الحديث وهو أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني ألتفت في الصف أي صف القتال فجؤوا في لحيي" وهذا عين ما جاء في حرمة تولي المجاهد عن الصف، وخروجه منه لغير سبب يقتضيذلك إذ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 

  من وحي الآيات: ما أجمل اقتران القول بالفعل 

يمقت الله سبحانه وتعالى الإنسان في حالات، ويرضى عنه في حالات، ومن أشد الحالات التي يمقت الله عز وجل الإنسان فيها أن يكون كلامه في واد، وعمله في واد آخر، فيعيش حياة كلها تناقض بين الأقوال والأفعال، قائمة على ازدواج في المواقف. فالإنسان له وجهان متناقضان، مزدوج الشخصية، إلى درجة الاقتراب من الانفصام. إن أكبر نقص في سلوك البشر في العالم اليوم، هو أن الأقوال شيء والأفعال شيء آخر، فالأقوال معسولة غالبًا، والأفعال مميتة. 

لذلك حينما رأى الإنسان أن الأقوال في وادٍ والأفعال في وادٍ، كفر بالكلمة، في حين أن الأنبياء جاؤوا بالكلمة الطيبة، قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) (إبراهيم: 24 – 25)، ولأنها كلمة صادقة طيبة انتشرت في الآفاق، فيما الذين كفروا وألحدوا جاؤوا بالكلمة أيضًا، ولكنها كلمة خبيثة، فظلت حبيسة أنفسهم، ولم تنتشر، قال تعالى: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) (26)  (إبراهيم: 26). 

وعلى الدعاة أن يحذروا من أن يراهم أتباعهم على خلاف ما يدعونهم. وعليك أيها المسلم أن تحاسب نفسك دائمًا كأن الله يعاتبك. فتخيل إن وعظت الناس بشيء أن الله يقول لك: يا عبدي هل أنت كذلك؟ يا ابن آدم عظ نفسك قبل أن تعظ غيرك، وإلا فاستحِ مني. 

فقد ينتفع الإنسان من أي طبيب، ولا يعنيه سلوكاته إطلاقًا، أكان مستقيمًا أم غير مستقيم، يصلي أم لا يصلي، منحرفًا أم لا، متزوجًا أم غير متزوج، كل ذلك لا يعنيك، ما يعنيك أنه مختص بمرضك. 

أما رجل الدين، فلا يمكن أن تصغي إليه إن رأيت تناقضًا بين أقواله وأفعاله. يقول سيدنا علي رضي الله عنه: قوام الدين والدنيا أربعة رجال: "عالم مستعمل علمَه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه". فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره. 

وينتهي العلم إن بقي في حيز الكلام ولم يطبق، وفي ذلك يمكن سرّ تأثير الأنبياء المذهل. فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ينشر الإسلام في ثلاثة وعشرين سنة، وبعدها ينتشر في العالم. إن أحد أسباب انتشار دعوة النبي أنه ما تكلم كلمة وفعل عكسها. فإن أردت أن تكون داعية، فأهم شيء في الدعوة ألا تنطق بكلمة لا تطبقها. وأعتقد أنه حينما تطبق ما تقول وتخلص فيما تقول، يهب الله لك قوة تأثير لا يملكها معظم الناس. وقوة التأثير تأتي من أنك تقول قولًا وتطبقه، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21)  (الأحزاب: 21). والتطبيق أصعب مهمة من التبليغ، فقد يكون الإنسان طليق اللسان، وذاكرته قوية، ويحفظ نصوصًا، ولكنه لا يؤثر في الآخرين كالذي يقول كلامًا كان طبقه على نفسه أولًا. وأكثر ما يدعوك إلى احتقار إنسان أنه يستخدم مقياسين في التعامل مع القضية ذاتها. 

ومن الأشياء التي يمقتها الله عز وجل، وتُسبب بعد الإنسان عنه:

1 – أن تقول شيئًا، وتفعل شيئًا آخر، وهذا يبعدك عن الله، ويسبب مقت الله عز وجل لك. إن أي إنسان يرى أن له ما ليس لغيره، ويرى على غيره ما ليس عليه، هو إنسان سقط من عين الله، لأنه عنصري. قال صلى الله عليه وسلم: "تمتلئ الأرض ظلمًا وعدوانًا حتى يأتي أخي عيسى فيملؤها قسطًا وعدلًا"  (رواه ابن ماجه). 

2 – الكفر، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا) (فاطر: 39) والكفر أن تعرض عن الله، وتلتفت إلى الدنيا، وإلى غير الله. هذا اللون من الكفر أحد أسباب المقت الكبير من الله. فهويتك الإسلامية تستدعي منك أنك حينما تدعى إلى الإيمان أن لا ترفض. قال الله عز وجل: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) (10)  (غافر: 10) وسوف يتألم الإنسان يوم القيامة ألمًا لا حدود له كما ورد في بعض الآثار: إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول يا رب لَإِرْسالُكَ بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب. 

3 – الجدال على غير حق، قال تعالى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا) (غافر: 35) فهو يجادل وهو جاهل، يرفض من دون دليل. نمطه مزاجي هوائي يتبع هواه، إذا أراد أن يجادل ويتكلم فهو عند الله ممقوت. والأصل إذا كان معك علم فتكلم، وإلا فاسكت. ويقابل المقت رضوان الله، ولا يوجد شيء في الأرض يفوق أن يرضى الله عنك. والصحابة الكرام نترضى عنهم تقريرًا، أما غير الصحابة فنترضى عنهم دعاءً، والفرق كبير بين الدعاء والتقرير، فعوِّد نفسك أن تقول عند ذكر أحد الصحابة: (رضي الله عنه)، أما إذا ذكر شخص من غير الصحابة، فقل: رحمه الله تعالى. وهذا هو الرأي الأقوى والأرجح. 

وهل هناك أعظم من الجنة التي يدخلها الإنسان، والتي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟ نعم، إنه النظر إلى وجه الله الكريم. وهل هناك شيء أكبر من النظر إلى وجه الله الكريم؟ نعم: ( وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (التوبة: 72)، فأعلى شيء في الجنة أن يرضى الله عنك، قال تعالى:(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (100)  (التوبة: 100). 

وحتى يرضى الله عنك، يجب أن تؤمن به، وأن تلتزم بأوامره وتجتنب نواهيه، وأن تعمل الصالحات. وهذا هو الفوز العظيم الذي ينبغي أن يسعى إليه كل إنسان، قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا )(18)  (الفتح: 18) ومما يرضي الله عز وجل أن تكون مع المؤمنين، وأن تعاونهم، وتحمل همهم، وتخفف من معاناتهم. وأكبر عطاء إلهي في الدنيا لمن اتبع رضوان الله، أنه يهديه سبل السلام، قال تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (16)  (المائدة: 16) وهل هناك أفضل من نعمة السلام بأن تعيش بسلام مع ربك في بيتك، ومع نفسك، ومع من حولك؟ عندئذ ستكون حياتك هادئة ناعمة، ليس فيها أحداث مؤلمة. 

  *  ما يستفاد من الآيات:

1- حرمة الكذب وخلف الموعد، وإن ذلك من صفات المنافقين، كما يقول القائل: فعلت كذا. وهو لم يفعله، أو نحو ذلك، والتحذير منه، حيث يقول سبحانه: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) 

2- فضيلة الجهاد في سبيل الله وفضيلة الوحدة والاتفاق. 

3- الحث على تراص الصفوف وتلاحمها في الجهاد في سبيل الله، وكذلك في الصلاة. 

4- الدين الإسلامي يحث على النظام واتحاد الكلم والصف. 

5- وجوب الثبات في الجهاد في سبيل الله ولزوم المكان كثبوت البناء.