نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن والثلاثون (في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام)
الوصف
نداءات الرحمن لأهل الإيمان - النداء الثامن والثلاثون (في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام)
النداء الثامن والثلاثون:
تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ" (المائدة:90-91).
موضوع الآيات: في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.
معاني الكلمات:
"الْخَمْرُ" : كل مسكر، وهو ما خامر العقل وغطاه.
كيفما كانت مادته قلت أو كثرت –لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر قليله فكثيره حرام".
"وَالْمَيْسِرُ" : القمار.
"وَالأنصَابُ" : جمع نصب، وهو ما ينصب ويتقرب به إلى الله أو التبرك به أو لتعظيمه.
"وَالأزْلاَمُ" : جمع زلم، وهي عبارة عن عيدان، يتستقسمون بها في الجاهلية، لمعرفة الخير من الشر، والربح من الخسارة –تفاؤلًا أو تشاؤمًا.
"رِجْسٌ" : الرجس المستقذر حسا كان أو معنى: إما من جهة العقل أو الشرع أو الطبع.
"مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" : أي مما يزينه للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم.
"فَاجْتَنِبُوهُ" : أي اتركوه جانبا، وابتعدوا عنه، فلا تقبلوا عليه بقلوبكم، وابتعدوا عنه بأبدانكم.
"تُفْلِحُونَ" : تسعدون في دنياكم وأخراكم.
"الْعَدَاوَةَ" : تجاوز الحق إلى الأذى.
"وَيَصُدَّكُمْ" : يصرفكم.
"وَعَنِ الصَّلاَةِ" : خصها بالذكر تعظيما لها.
"فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ" : أي انتهوا، فالاستفهام للأمر لا للاستخبار.
سبب نزول:
روى ابن جرير عن أبي الميسرة قال، قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في البقرة: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" (البقرة:219), فدعي عمر فقرأت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في النساء: "لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء:43) وكان منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ" إلى قوله "فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ" فقال عمر: انتهينا، انتهينا، وفي رواية ابن المنذر عن سعيد بن جبير أن عمر قال: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا. فتركها الناس –وورد روايات أخرى في سبب النزول.
المناسبة:
لما نهى الله سبحانه فيما تقدم "لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ" (المائدة:87) إلى قوله "وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلًا طَيِّبًا" (المائدة:88)، وكان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر بين عز وجل أنهما غير داخلين في المحللات، بل في المحرمات. الحكمة في التدرج بتحريم الخمر: كان العرب في الجاهلية مدمنين الخمر متعلقين بها أشد التعلق, فلو حرمت دفعة واحدة لم يقلع الكثير عنها – وإنما عرض تعالى بالتحريم في سورة البقرة –ثم في سورة النساء في أوقات الصلاة فامتنعوا عن شربها، وشربوها ليلًا، ثم حرمت نهائيًا في سورة المائدة هذه الآيات التي معنا.
المعنى الإجمالي:
يخاطب الله سبحانه عباده المؤمنين وينادينهم بلفظ الإيمان "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" ذلك لأن الإيمان بمثابة الروح للجسد، فمن آمن وصح إيمانه فقد حَيِيَ وأصبح أهلًا لأن يؤمر فيمتثل ويفعل، وينهى فيمتثل ولا يفعل، وذلك لكمال حياته. وأما الكافر فكالميت لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ولا يعقل؛ ولذا لا يُكَلَّفُ إلا بعد حياته بالإيمان بالله ولقائه وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يذم الله سبحانه ويحرم هذه الأربعة المذكورة في هذه الآية: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" فالخمر ما خامر العقل وغطاه، أي ستره فأصبح صحابه لا يعقل ما يقول، والميسر: القمار وهو جميع المطالبات التي فيها عوض، والأنصاب ما ينصب ويتقرب به إلى الله أو التبرك به أو تعظيمه، والأزلام هي سهام يستقسمون بها في الجاهلية، وهي عبارة عن ثلاثة سهام، كتب على أحدها: أمرني ربي. والآخرة: نهاني ربي – والثالث لا يكتب عليه شيء. فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو غير ذلك يأتي صاحب الأزلام فيطلب منه بيان قسمته وحظه، فيدخل العيدان في كيس ويمليها يمينًا وشمالا حتى تختلط ثم يخرج واحدًا من الثلاثة، فإذا أخرج: أمرني ربي. مضى في عمله الذي عزم عليه. وإن خرج: نهاني ربي. ترك العمل. وإن خرج الذي ليس في شيء أعاد حتى يخرج: أمرني أو نهاني.
فجاء الإسلام فحرم هذا الاستقسام، كما حرم ما يعرف بخط الرمل، أو قراءة الكف أو غيره من الخزعبلات وأنواع الضلالات. ومنها ادعاء معرفة الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله التي فيها عدم التوكل على الله، والاعتماد على غير الله، مما يهدم عقيدة المسلم ولجوءه إلى غير الله واعتقاد النفع والضر من غير سبحانه، فقد حرمها الإسلام تحريما أكيدا لضررها على الفرد والمجتمع، وأخبر سبحانه أنها رجس من عمل الشيطان. والرجس هو النجس المستقذر حسًا أو معنى، والمحرمات كلها خبيثة، لاسيما أن الشيطان يزينها من أجل إضلال البشر، والشيطان لا يزين إلا ما كان مستقذرًا حسًا أو معنى، ثم قال سبحانه "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" ثم بين سبحانه في الآية الثانية سبب وعلة تزيين الشيطان لهذه المحرمات الأربع –إيقاع العداوة والبغضاء بيننا، وصدنا عن ذكر الله، وعن الصلاة –ثم ختم سبحانه الآية بقوله "فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ" بطريق الزجر بعدما عرف أضرار وعظائم هذه الأمور المحرمة، لذا قال عمر رضي الله عنه: انتهينا ربنا – انتهينا.
ما يستفاد من الآيات:
1- تحريم الخمر والقمار والأنصاب والأزلام وحرمة تعظيمها.
2- وجوب الانتهاء عن تعاطي هذه المحرمات فورًا، وقول انتهينا قولا وفعلا والتوبة إلى الله من ذلك، كما قال عمر رضي الله عنه: انتهينا يا ربنا انتهينا.
3- بيان علة تحريم الخمر والميسر أن الله سبحانه ختم الآية بقوله "لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم، إذ هما من أخطر الأمراض اجتماعيا وصحيا واقتصاديا وبدينا – أما الخطر الاجتماعي فالشيطان يريد لكم بشرب الخمر ولعب الميسر أن تقع بينكم العداوة والبغضاء فيقضي على جماعتكم ويشتت شملكم ويهدم كيانكم، والإسلام حريص جدا على إخوتكم واتحادكم وتضامنكم وإزالة أسباب الشقاق والنزاع فيما بينكم – والشواهد على هذا كثيرة وواضحة "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ" (آل عمران: 103)، "المسلم للمسلم" "مثل المؤمنين".
وأما الناحية المالية وخطرها: فكم من بيوت هدمت، وكم من أموال بددت على موائد الخمر ولعب الميسر، وأما الخطر الديني فهما يصدان عن ذكر الله الذي يجلي القلوب ويزكيها ويطهر النفوس ويهديها، وهما يمنعان عن الصلاة التي هي عماد الدين، إذ السكران لا عقل له، ولا قلب له فيكف يهتدي إلى الخير وإلى الصلاة، ولاعب الميسر يجلس الساعات بل يواصل ليله ونهاره، ولا يدري ما حوله، ولا يشعر بنفسه قد نسى بيته وأهله وولده وقد أكد الله تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:
1- إنه سماها رجسا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "الخمر أم الخبائث".
2- إنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات الشرك، وقد روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله قوله صلى الله عليه وسلم "مدمن الخمر كعابد وثن".
3- إنه جعلها من عمل الشيطان لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن.
4- إنه جعل اجتنابهما للفلاح والفوز والنجاة.
5- إنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية، التي تولد كثيرًا من المعاصي في الأموال والأعراض والأنفس.
6- إنهما جعلا صادين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.
قال قتادة: كان الرجل يقامر على الأهل والمال، ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظًا على حرماته.
الخلاصة:
للخمر مضار شخصية وصحية واجتماعية بزرع العداوة والبغضاء ودينية بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة. ومالية بتبديد الأموال في الضار غير النافع وكذا للقمار أضرار نفسية عصبية بإحداث توتر في الأعصاب وقلق واضطراب واجتماعية ودينية ومالية كالخمر تماما.