نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء التسعون (وجوب التوبة النصوح)

نداءات الرحمن لأهل الإيمان _النداء التسعون (وجوب التوبة النصوح)
425 0

الوصف

 النداء التسعون  

  وجوب التوبة النصوح  

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (التحريم: 8). 

  * موضوع الآية:  

وجوب التوبة النصوح من الذنوب والخطايا على الفور، رجاء المغفرة ودخول الجنة. 

  *  معنى الكلمات: 

 (تَوْبَةً نَّصُوحًا): صادقة بالغة في النصح، وهي الندم على ما فات، والعزم على عدم العود إلى مثله في المستقبل، والإقلاع عن الذنب، سئل على بن أبي طالب رضي الله عنه عن التوبة فقال: يجمعها ستة أشياء، على الماضي من الذنوب الندامة، والفرائض الإعادة، ورد المظالم –واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود وأن ترى نفسك في طاعة الله كما رأيتها في المعصية. 

 (يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ): أي لا يفضحهم بإدخالهم النار. 

 (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ): أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم. 

 (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا): أي إلى الجنة؛ لأن المنافقين ينطفىء نورهم. 

*  المعنى الإجمالي:

هذا آخر نداء من نداءات الرحمن جل جلالة وتقدست أسماؤه، ينادي عباده المؤمنين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وما يكون سببًا في تزكية نفوسهم وتطهير أرواحهم، ليكونوا أهلًا لنزول دار السلام، حيث النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، كما قال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيمًا) (النساء: 69-70)، فقد نادى الله عباده المؤمنين إلى التوبة الصادقة النصوح والرجوع والإنابة إليه سبحانه، أي توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة صادقة خالصة بالغة في النصح الغاية القصوى.  

سئل عمر رضي الله عنه عن التوبة النصوح فقال: هي أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع. وسئل الحسن البصري رحمه الله عن التوبة النصوح فقال: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار ألا يعود. وقال ابن مسعود: التوبة النصوح تكفر كل سيئة، ثم قرأ هذه الآية (آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا) .. الآية، وقال الإمام النووي رحمه الله: التوبة النصوح ما استجمعت ثلاثة أمور:

1- الإقلاع عن الذنب. 

2- الندم على فعلها. 

3- العزم الجازم على ألا يعود إلى مثلها أبدًا. 

وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي وجب رد المظالم إلى صاحبها، قال صلى الله عليه وسلم: "من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون هناك دينار ولا درهم، إن كان عنده حسنات أخذ من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئات صاحبه، ثم طرحت عليه"  ثم قال سبحانه: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) قال المفسرون: إطماع من الله لعباده في قبول التوبة، تفضلًا منه وتكرمًا؛ لأن العظيم إذا وعد وفى، وعسى من الله واجبة بمنزلة التحقيق، وفيه تعليم العباد أن يكونوا بين الخوف والرجاء، وقوله تعالى: (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) أي ويدخلكمفي الآخرة حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحت قصورها أنها الجنة، يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه، أي يوم لا يفضح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار، بل يعزهم ويكرمهم، قال أبو السعود: وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق (نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن إيمانهم وشمائلهم: كإضاءة القمر في سواد الليل. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل كيف تعرف أمتك يوم القيامة بين الأمم؟ فقال: "إنهم يأتون غرا محجلين من آثار الوضوء"  أي تسطع جباههم وأيديهم بالنور من آثار الطهور، فيعرفهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه: (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) أي يدعون الله قائلين، يا ربنا أكمل علينا هذا النور، وأدمه لنا، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات. 

قال ابن عباس: هذا دعاء المؤمنين حين أطفاء الله نور المنافقين. يدعون ربهم به إشفاقًا حتى يصلوا إلى الجنة. (وَاغْفِرْ لَنَا) أي وامح عنا ما فرط من الذنوب، إنك على كل شيء قدير، إنك سبحانك أنت القادر على كل شيء من المغفرة والعقاب والرحمة والعذاب. وقد روي أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطىء قدمه؛ لأن النور على قدر العمل. وروي أن السابقين إلى الجنة يمرون على الصراط مثل البرق، ويمر بعضهم كالريح، وكأجاود الخيل. وبعضهم يحبوا حبوا، أو يزحف زحفا. وجاء في سورة الحديد (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) (الحديد: 28). 

  قائمة فيها بعض ما يحبه الله تعالى وأخرى بما يكرهه

وإليك أيها القارئ الكريم قائمة بمحاب الله تعالى وأخرى بمكارهه لتفعل المحبوب بشرطه، وتترك المكروه بشرطه. 

قائمة المحبوب لله عز وجل:

- الإخلاص لله (عز وجل) في فعل المحبوب وترك المكروه، ومعنى الإخلاص أن تفعل ما تفعل وتترك ما تترك طاعة لله وخوفا منه وحبا فيه، وتترك ما تترك كذلك لا تلتفت بقلبك إلى شيء أبدا. 

- إقام الصلاة بأن تؤديها في بيوت الله مع جماعة المسلمين، وأن تخشع فيها مراعيا فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها. 

- إيتاء الزكاة متى وجبت عليك لملكك مالا صامتا كالدراهم والدنانير والحبوب والثمار، أو ناطقا كالأنعام من الإبل والبقر والغنم. وبلغ مالك نصابا وحال عليه الحول إن كان غير الحبوب والثمار. 

صيام رمضان مع تجنب مفسداته كالغيبة وسائر الآثام والمفطرات. 

- حج بيت الله الحرام إن ملكت زادا لنفقتك ونفقة أهلك بعدك. وقدرت على المشي أو الركوب. 

- بر والديك بطاعتهما في المعروف وإيصال الخير إليهما وذلك بتقديم ما يحتاجان إليه من غذاء وكساء ودواء وإيواء. مع كف الأذى عنهما حتى ولو بكلمة نابية بصوت مرتفع. 

- صلة رحمك بالإحسان إليهم في حدود قدرتك. 

-الجهاد في سبيل الله متى دعا إليه إمام المسلمين وعينك له. 

- الإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل. وإلى كل المسلمين بإكرامهم وعدم أذيتهم بقول أو فعل. 

- الصبر بأن تصبر على عبادة الله تعالى فلا تضجر ولا تمل. وتصبر على ما يبتليك به امتحانا لك كالمرض والجوع والخوف. 

  قائمة المكروه لله سبحانه وتعالى:

- الشرك في عبادته بصرف أي شيء منها لغير الله تعالى. 

- أكل الربا وإن قل كدرهم. 

-الزنا. 

- أكل مال اليتيم. 

- عقوق الوالدين. 

- شهادة الزور. 

- قذف المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة. 

- أذية الجار. 

- أذية المؤمنين والمؤمنات. 

- ترك محبوب لله من قائمة المحبوبات. 

كانت تلك بعض المحبوبات والمكروهات. فإذا تركت محبوبا منها، أو فعلت مكروها منها فبادر بالتوبة على الفور، وهي فعل ما تركت، وترك ما فعلت وأنت تستغفر الله ونادم أشد الندم على ما تركت من محبوب الله، أو على ما فعلت من مكروه لله، وأبشر بعد ذلك بما بشرك الله تعالى به في قوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ) واعلم أن ( عَسَى) من الله تفيد تحيقي المرجو وتأكيده، فأبشر الجنة بعد تكفير السيئات. في يوم لا يخزي فيه الله النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه بأن لا يذلهم ولا يعذبهم ويعطيهم نورا يمشون فيه حتى يجتازوا الصراط ويدخلوا الجنة دار السلام. 

  من وحي الآية: التوبة حبل النجاة

التوبة حبل النجاة، وَقَارِبُهَا إن أغرقت الإنسان خطيئاته، وهي حبل الله المتين، وفيها الخلاص من الذنوب. وما أمرك الله أن تتوب إلا ليتوب عليك. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدث عن التوبة، وكل آية تأخذ منحى خاصًا، فالله عز وجل يطمئننا، إذ يقول: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) ) (النساء: 27) وأنت حينما تتوب تنعم بحب الله لك، لذلك يقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) ) (البقرة: 222). والله يريد أن يتوب عليك ويحبك، لأنك إن تبت إليه فإنك قبلت عطاءه، فلقد خلقك ليسعدك، قال تعالى: (إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود: 119) وإذا كان الله عز وجل قد خلقك ليسعدك، وأنت سعدت فاستجبت له، فإنه يحبك، قال تعالى يحض المؤمن على التوبة: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) (المائدة: 74)، ويتوهم الناس حين يعتقدون أن التوبة أن تقول تبت. على التائب حقوق يجب أن يؤديها، وتجاوزات يطلب السماح منها، وهناك تقصيرات سابقة يجب أن يتممها، قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) ) (البقرة: 160). 

أما من ارتكب سيئة ولم يعلم أنها سيئة، فإن الله يتوب عليه لرحمته به؛ لأن من رحمة الله بنا أننا إذا فعلنا سيئة ولا نعلم أنها سيئة فسريعًا ما يتوب الله علينا منها، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) ) (الأنعام: 54). 

ومن تمام التوبة أن تتوب من الذنب فور ارتكابه، قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) ) (النساء: 17). 

وليتذكر الإنسان أن باب التوبة قد يغلق قبل التوبة، فلا تقبل توبة العبد عندما يحضره الموت، قال تعالى: ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآَنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) ) (النساء: 18). 

وجاء في بعض الأحاديث القدسية: "وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه، إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقمًا في جسده، أو إقتارًا في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه" (ورد في الأثر). 

والرابح الأكبر في الآخرة هو من طهره الله من ذنوبه قبل أن يأتيه الموت. فيا أيها المؤمن: إذا وصلت إلى شفير القبر، وقد طهرك الله من كل الذنوب فأنت الرابح. أنت الرابح حينما يأتي ملك الموت، وترى مقامك في الآخرة، وتقول: لم أرَ شرًا قط، فيما الذي غرق في الملذات والشهوات والموبقات ومعه ملايين الدولارات، ولم يدع متعة إلا مارسها فيقول عندما يأتيه ملك الموت: لم أرَ خيرًا قط. لذلك فالبطولة لمن يضحك آخرًا. فمن ضحك أولًا ضحك قليلًا، وسيبكي كثيرًا، أما من يضحك آخرًا فيضحك كثيرًا ولا يبكي. 

وتوبة الله عز وجل واسعة، تشمل أيضًا من عصى أوامر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم اعتذر. فلا تعص أوامر النبي العظيم، ولا تخالف سنته، فقد أرسله الله جل وعلا من أجلك، فإذا ذهبت إلى مقامه الشريف فاستغفر الله، واعتذر لرسول الله؛ لأنك ما طبقت سنته، وإن لم تتب فإنك ستدفع الثمن باهظًا، قال تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64) ) (النساء: 64). والعالم من أفتى لنفسه بالشدائد وللآخرين بالرخص قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) ) (النساء: 65). 

وعلى الإنسان أن لا يفتي إلا وفق ما أفتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فالتحريم يحسنه أي إنسان حتى ولو كان جاهلًا، فيقول احتياطًا: كله حرام، أما التحليل مع الدليل فلا يحسنه إلا العلماء الكبار، والحياة يجب أن تستمر، فإن منعت أحدًا أخذًا بالتشديد من أن يسافر، ليدرس، أو يعمل في وظيفة، فإن هذا يفتح له أبواب المعصية كلها. لذلك فإن التشدد غير المعقول يقابله تفلت غير معقول، قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) ) (النساء: 146) ولا يجوز العمل بالقوانين بأثر رجعي. وهناك آية وحيدة في القرآن الكريم تلتقي مع أحدث مفهومات الحرية. ولو فرضنا أنه صدر قانون يدين عملًا معينًا، فالإنسان إذا فعل ذلك الفعل قبل إصدار القانون فإنه لا يؤخذ به؛ لأنه من الحضارة والرقي ومن حقوق الإنسان ألا يعمل بالقوانين بأثر رجعي، ومن الحضارة واحترام حقوق الإنسان أن القرار لا يطبق إلا على من فعله بعد إصدار القرار فقط، قال تعالى: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) ) (المائدة: 34). 

وفي الإسلام لا توجد عداوة دائمة، وأنت لا تكره الإنسان بل تكره فعله فقط، وتكره فسقه وكفره، وفجوره، قال تعالى: ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) ) (التوبة: 11). 

والله عز وجل غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، ولم يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، قال تعالى: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) ) (التوبة، 102)، وقال: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) ) (طه: 82)، وقال: صلى الله عليه وسلم: "ركعتان من وَرِعٍ خير من ألف ركعة من مُخَلِّط"  (الجامع الصغير). ومن رحمة الله عز وجل بعباده أنه يسوق لهم من الشدائد ما يحملهم على التوبة، قال تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة: 118). وفي قوله تعالى: (لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ) (التوبة: 117)، مع أن النبي لم يذنب، يقول المفسرون: تاب عليه جبرًا لخاطر هؤلاء الثلاثة، فأدخله معهم. تاب الله على النبي وعلى الثلاثة الذين خلِّفوا، فقد ساق لهم من الشدائد ما حملهم بها على التوبة. وتوبة الله إذا سبقت توبة العبد فإنها تعني الشدائد، وتوبة الله إذا جاءت بعد توبة العبد فإنها تعني قبول التوبة. 

ويا أيها المؤمن: اجعل جوك إيمانيًا كي لا تقع في الذنب، واجعل أصدقاءك مؤمنين، وعش مع المؤمنين، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ) (التوبة: 119)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"  (أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم). 

وعلى الجميع الاستقامة في كل أمور حياتهم قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ) (هود: 112)، ولن يقطف الناس ثمار التوبة كاملة إلا إذا تابوا جميعًا. فعندما يذهب الإنسان للعمرة حيث الحجاب إلزامي فإنك تعيش أسبوعين أو ثلاثة لا يأتيك خاطر نسائي واحد، فكل النساء محجبات. 

فإن تاب الناس جميعًا ترى الحياة قطعة من الجنة، لذلك قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (النور: 31)، وأما الذي لم يتب فهو من أشد الظالمين لنفسه قال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) ) (الحجرات: 11). 

  *  ما يستفاد من الآيات:

1- وجوب التوبة إلى الله توبة نصوحًا على الفور. 

2- إن التوبة سبب لتكفير السيئات ودخول الجنات. 

3- التوبة مطلوبة مما يتعلق برب العالمين من الذنوب والمعاصي، والتخلص من حقوق العباد في هذه الدنيا. 

4- إن الأعمال الصالحة سبب لتجاوز الصراط وإعطاء النور الذي يسير به المؤمن إلى الجنة والبعد عن النار. 

5- إن الله سبحانه له القدرة التامة على كل شيء، يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء. 

6- قال ابن القيم رحمه الله: الخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين للطائر، فلا بد أن يكون المؤمن خائفًا راجيًا–إلا أن الرجاء يتمحص في حال المرض، كما أن الخوف في حال الصحة. 

7- إن للإيمان نورًا يمشي بصاحبه على الصراط، ويسعى به إلى النجاة، ويدعو المؤمنين في الآخرة حين ينطفىء نور المنافقين بقولهم في الآخرة: ( رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 

8- ختم الله سبحانه وتعالى آيات نداء المؤمنين بالتوبة إلى الله تعالى بعد أن أرشد وبشر وأنذر ووعظ سبحانه، وفي ذلك حكمة عظيمة ختام هذه الآيات بهذه الآية.