موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(9- الإيثار)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(9- الإيثار)
235 0

الوصف

                                                    حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية

                                                             9- الإيثار
               الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السابع: حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية >>

10- الإيثار

الإيثار مرتبة راقية جدًّا من مراتب خلق حب العطاء، إذ هو تقديم الإنسان أخاه على نفسه في أمر هو بحاجة إليه.

ولا شك أن من الصعب جدًّا أن يتجرد الإنسان عن نفسه كل هذا التجرد، فيؤثر أخاه على نفسه في أمر هو بحاجة شديدة إليه.

ومع ذلك فإننا نجد ظاهرة الإيثار بنسبة جيدة عند الأمهات نحو أولادهن، إذ يؤثرنهم على أنفسهن في كثير مما يحتجن إليه في حياتهن، وقد نجدها عند الآباء نحو أولادهم ونجدها عند المحبين والعشاق، لا سيما في أحوال تأجج نار الحب والعشق، وتوهج لهيب الشوق، إذ يؤثر العاشق من يحب على نفسه بكثير مما يحب.

لكن كل هذه الصور من الإيثار صور ضيقة الدوائر، محدودة المواقع: أم تؤثر ولدها على نفسها، فإذا عاملت الآخرين عاملتهم بأنانية مفرطة. أبٌ قد يؤثر ولده على نفسه، فإذا عامل الآخرين عاملهم بأنانية مفرطة. عاشق قد يؤثر من يحب على نفسه، فإذا عامل الآخرين عاملهم بأنانية مفرطة.

أما الإيثار المثالي، الذي لا ينحصر في دوائر ضيقة، ولا تدفع إليه عاطفة ثائرة، فهو الإيثار الذي نجده عند المؤمنين الصادقين، الذين يعاملون الله تعالى، ويبتغون رضوانه، ويرجون الأجر عنده. فهؤلاء هم الذين تتسع دائرة الإيثار عندهم، فحيثما وجدوا مرضاة الله في إيثار غيرهم على أنفسهم، توقد في قلوبهم الإيمان، فآثروا على أنفسهم ابتغاء مرضاة الرحمن، ولو كان بهم خصاصة (أي: ضرورة أو حاجة) وقدموا مصالح أنفسهم الدنيوية ضحايا وقرابين لتذبح على مذبح ابتغاء الخير والفضيلة، جودًا بها، وعطاءً غير محدود، وقد يبلغ بهم جود الإيثار أن يقدموا أرواحهم وحياتهم ضحايا، فداءً لغيرهم، ولكن ابتغاء مرضاة الله.

بواعث الإيثار:

أما الإيثار الأدنى ذو الدوائر الضيقة، الذي يكون عند الأمهات والآباء والعشاق، فالباعث إليه أمر فطري في النفوس ينتج عنه حب شديد عارم، والحب من أقوى البواعث الذاتية الدافعة إلى التضحية بالنفس وكل ما يتصل بها من مصالح وحاجات، من أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه، أو جلب السعادة أو المسرة له.

إن الحب محرك ذاتي قوي وفعال، وهو في النفس مولد حراري لأية قوة أو مادة يلامسها داخل الأنفس، ومع ارتفاع درجة حرارة الأنفس بمس الحب ينسى الإنسان ذاته، ويصبح أداة توجهها قيادة الحب، كما يوجه قائد السفينة سفينته بحركات بسيطة من مركز قيادته، وبهذا نفسر كيف يكون إيثار العشاق من يحبون بما يحبون، ما دام الحب هو الموجه في مركز قيادة أنفسهم.

أما الإيثار المثالي الأسمى، الذي يكون عند الطراز الراقي من المؤمنين الصادقين، فهو ليس إيثارًا انفعاليًّا عاطفيًّا مجردًا، ولكنه إيثار يعتمد على محاكمة منطقية سليمة، ويعتمد على عاطفة إيمانية عاقلة، وكذلك تكون أعمال المؤمنين بالله، الذين يحرصون على ابتغاء مرضاته.

ولما كانت مرضاة الله تعالى لا تنحصر في وجه من وجوه البر، أو في فرد معين من الأفراد؛ فإن تضحيات هؤلاء ومظاهر إيثارهم لا تنحصر كذلك، بل هي تساير اتجاه مرضاة الله.

والمحاكمة المنطقية لديهم قائمة على أن كل ما يعملونه ابتغاء مرضاة الله مأجورون عليه عنده أضعافًا مضاعفة، في دار هي أعظم من هذه الدار، وحياة هي أجل وأكمل من هذه الحياة، فإيثارهم وتضحياتهم من قبيل التجارة الرابحة قطعًا، وقائمة أيضًا على ملاحظة أن كل عمل فيه تحقيق لمرضاة الله هو العمل الأفضل والأنفع والأصلح في الحياة.

والعاطفة الإيمانية العاقلة لديهم قائمة على حب الله ورسوله، وحب ما يرضي الله ورسوله.

لذلك كان إيثار هذا الطراز الراقي من المؤمنين هو أرقى أنواع الإيثار وأفضل صوره.

أمثلة من الإيثار الأسمى:

1- سجل الله للأنصار فضيلة إيثارهم إخوانهم المهاجرين، بكثير مما لهم به ضرورة أو حاجة، وفي ثنائه عليهم تحريض على الاقتداء بهم، فقال تعالى في سورة (الحشر 59):

(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9))

ففي هذا النص يبين الله تعالى فضل المهاجرين وفضل الأنصار، أما المهاجرون فقد ضحوا بأموالهم ومساكنهم وخرجوا مهاجرين من مكة، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله. وأما الأنصار فقد استقبلوهم بالإكرام، وآثروهم على أنفسهم بكثير من محابهم، حتى كان منهم من آثر أخاه من المهاجرين على نفسه، مع أن به خصاصة لما آثر به.

وقد بلغ من إيثارهم أن يكون للأنصاري زوجتان أو أكثر، فيقول لأخيه من المهاجرين: اختر ما تشاء منهن، حتى أطلقها من أجلك لتتزوجها إذا انقضت عدتها.

وفي غزوة بني النضير، لم يجد الأنصار في أنفسهم غضاضة أن يوزع الرسول صلى الله عليه وسلم فيئها على فقراء المهاجرين، عفة منهم وإيثارًا، وشعورًا منهم بحق المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فأصابهم الفقر بسبب الهجرة.

2- ومن لطائف قصص الإيثار، ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود (أي: فقير جائع) فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

من يضيف هذا الليلة؟.

فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية، قال لامرأته: هل عندك شيء؟

قالت: لا، إلا قوت صبياني.


قال: فعلليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف، وباتا طاويين،  طاويين: أي من غير عشاء.   فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة.

ففي هذا الحديث قصة لطيفة من قصص إيثار الأنصار، وفيه بيان ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من إيثار لشظف العيش، ولو شاء أن يكون ذا سعة لكان.

3- وروى البخاري عن سهل بن سعدٍ، أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره.

فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها!.

فقال:

نعم

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه.

فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لا يرد سائلًا.

فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني.

قال سهلٌ: فكانت كفنه.

4- هذه التربية الإسلامية هي التي جعلت أبا بكر رضي الله عنه يقدم كل ماله في موسم من مواسم البذل والعطاء، إذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إلى البذل في سبيل الله. ولما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم:

ماذا تركت لعيالك؟

قال: تركت لهم الله ورسوله.

وهي التي جعلت عمر بن الخطاب يقدم نصف ماله في سبيل الله، وهي التي جعلت عثمان بن عفان يجهز جيش العسرة.

وهي التي علمت الأشعريين أن يشتركوا فيما عندهم من طعام إذا قل طعام عيالهم.

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناءٍ واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم.

فلله در الأشعريين، ما أحسن تعاونهم وتشاركهم وإيثارهم!.