موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(5- التربية الإسلامية على خلق حب العطاء)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(5- التربية الإسلامية على خلق حب العطاء)
248 0

الوصف

                                                    حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية

                                                   5- التربية الإسلامية على خلق حب العطاء
           الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السابع: حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية >>

5- التربية الإسلامية على خلق حب العطاء

وضع الإسلام كل ما يلزم من خطط وترتيبات، لتربية خلق حب العطاء في نفوس المسلمين، تقديرًا منه لأهمية هذا الخلق العظيم في تزكية النفس، وفي توثيق روابط الأخوة بين المجتمع الإسلامي.

ولذلك حث حثًا عظيمًا على كل أنواع العطاء الخير، سواء أكان عطاءً معنويًّا أو عطاءً ماديًّا، من خدمات ومعونات جسدية، أو عطاءات نفسية، أو ممتلكات مادية، وسواء أكان عطاء عامًا أو عطاءً خاصًا.

والعملية التربوية الإسلامية الذكية قد أعدت بحكمة بالغة، قدرت فيها العناصر المختلفة تقديرًا حكيمًا ملائمًا للإنتاج المطلوب، كحكمة الصيدلاني إذ يقدر العناصر الدوائية المختلفة بدقة تامة، لإعداد الدواء الملائم تمامًا لعلاج الداء.

ونصفها بصورة مجملة فيما يلي:

1- نضع عنصر حب الإنسان لنفسه، وقد عرفنا أنه عنصر جاهز في نفس الإنسان بحسب تكوينه الفطري.

2- نرفع درجة حرارته، فيتولد عنه حب الإنسان كل ما يفيده وينفعه ويمتعه ويلذ له.

3- نضيف عنصر العقل الواعي، ذي البصيرة النافذة والنظر البعيد، ليقارن مقارنة صحيحة بين العاجل والآجل، وبين الدنيا والآخرة.

4- ستطفو على السطح شوائب الأهواء، ومجموعات من زبد النزوات النفسية، التي تؤثر العاجلة على الآجلة.

5- نطرح شوائب الأهواء، ومجموعات زبد النزوات النفسية، بوسائل حكيمة بارعة، حتى يتم نقاء المركب النفسي مما لا نفع فيه، ومما يجب أن يذهب جفاءً.

6- نضيف عنصر الطمع بما أعد الله يقينًا للذين ينفقون في سبيله، من نعيم مقيم، وجزاء عظيم، في جنة الخلد، ومن إخلاف وتعويض للباذلين في سبيل الله في الدنيا.

7- نضيف عنصر الخوف مما أعتده الله للبخلاء، الذين لا يؤدون ما فرض الله في أموالهم، من عذاب أليم، ووعيد بالإتلاف لما بين أيديهم من أموال لم يؤدوا منها حق الله.

8- نمزج العناصر السابقة مزجًا جيدًا، ونرفع درجة حرارتها بوقود الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم نعدل درجة الحرارة ببرد اليقين الذي لا يداخله اضطراب.

بعد هذه العملية التربوية الإسلامية الذكية، لا بد أن تندفع نفس المؤمن إلى الجود بما تملك ابتغاء مرضاة الله، وطمعًا بما أعد الله للمنفقين في سبيله من ثواب عظيم، وخوفًا مما أعتد للبخلاء الممسكين من عذاب أليم.

وحين يتكرر في نفس المؤمن هذا الانفعال الخلقي نحو العطاء ابتغاء مرضاة الله، ويأتي برد اليقين بعد ذلك بصفة متدرجة ويقترن بموجات الانفعال نحو العطاء شعور حلوٌ بلذة ممارسته، ويمضي زمن كافٍ لاكتساب الخلق، عندئذٍ يغدو حب العطاء خلقًا أصيلًا راسخًا في نفس المسلم المؤمن، بعد أن كان في بداياته ضئيلًا أو معدومًا.

بهذه التربية الإسلامية العظيمة، تمت صناعة النماذج الراقية من الرجال المتحلين بمكارم الأخلاق، والنساء المتحليات بمكارم الأخلاق.

وخلدت معامل التربية الخلقية الإسلامية أعظم إنتاج ظهر في دنيا الناس، وكان المعلم الأول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الهادي إلى سبيل الرشاد فيها كتاب الله وشرائعه التي أنزلها على رسوله، ونماذج التربية الربانية التي ربى الله بها أنبياءه ورسله عليهم صلوات الله تعالى وسلامه.

وبهذه التربية العظيمة على خلق حب العطاء، وبهذا التصنيع الخلقي الرفيع، استطاع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح العالم المتحضر يومئذ بالحضارة المادية والمتخلف في ميدان الحضارة الخلقية والحضارة الروحية الطاهرة، فكان سلطان الحضارة الروحية والخلقية أغلب وأقوى من سلطان الحضارة المادية؛ لأنه استطاع أن ينفذ إلى قلوب الشعوب التي تهيمن عليها الحضارة المادية، فيستولي عليها، وقد كانت قلوب هذه الشعوب ثغورًا مفتوحة ليس عليها حراس، وليس من دونها حصون.

وكان هذا هو المنطلق العظيم الذي انتصر به المسلمون.

بيان الوسائل:

وقد اتخذت التربية الإسلامية عدة وسائل، لضبط دافع حب التملك عند الإنسان، وحصره ضمن الدائرة التي هو فيها نافع ومفيد، ومنعه عن أن ينمو نموًا خبيثًا ضارًا، ولغرس وإنماء حب العطاء، حتى يكون خلقًا من أخلاق المؤمن المسلم.

وفيما يلي بيان لأهم هذه الوسائل:

الوسيلة الأولى:
تغذية الدوافع الفطرية الأخرى المعدلة لهذا الدافع، كالدافع الجماعي الذي يتولد عنه مقدار ما من الغيرية، ويتولد عنه حب العطاء.

فبزور الدوافع الفطرية المختلفة إذا نميت وفق مقاديرها النافعة توازنت فيما بينها، وكان كل منها معدلًا للآخر، وحاصرًا له عن أن ينمو نموًا ضارًا، على حساب مواقع غيره في خريطة النفس.

الوسيلة الثانية:
تقييد دافع حب التملك عن الانطلاق الحر في كل ميادين الكسب، ومنعه من أن ينطلق إلا في حدود ما أذن الله به، من وجوه كسب لا ظلم فيها ولا عدوان ولا ضر ولا إثم.

الوسيلة الثالثة:
تكليف المسلم بجملة من الحقوق المتعلقة بما يكسبه وةيتملكه، كحق النفقة الواجبة، وحق الزكاة للسائل والمحروم، وحق مصالح المسلمين العامة، وإلزامه بدفعها طائعًا راضيًا، وإلا أخذت منه عنوة وكرهًا. وفي هذه الوسيلة محاصرة لدافع التملك.

الوسيلة الرابعة:
إقامة منافس في داخل نفس المسلم، وهذا المنافس يستطيع أن يكون قوة حصار تكبح باستمرار محاولات جموح دافع التملك أو جنوحه.

هذا المنافس هو خلق حب العطاء، وقد عمل الإسلام على تربية هذا الخلق بوسائل وأساليب مختلفة، ومعلوم أنه لا يقوى في النفس الإنسانية كيان حب العطاء إلا على حساب محاصرة حب التملك ضمن الدائرة التي يكون فيها نافعًا ومفيدًا، فكلما حاول تجاوز دائرته قام حب العطاء فاستأصل الزوائد الضارة، وأعاد النفس إلى مستوى التوازن، فلا حب تملكٍ يطغى عن حده ودرجة قصده، ولا حب عطاءٍ يطغى عن حده ودرجة قصده.

وبالمزيج النفسي الخلقي السوي يعطي المسلم صورة للإنسان العامل في إقامة صرح الحضارة المثلى، العطوف الودود الغيري المعطاء.

الوسيلة الخامسة:
الغوص إلى أعماق نفس المسلم، إلى حيث يستقر الإيمان، ثم تحريك جانب الإيمان باليوم الآخر وتحريك محوري الطمع والخوف فيه بالترغيب والترهيب، وتصعيد مطامع النفس بالتملك، حتى تتوجه للرغبة بامتلاك ما هو أجل وأعظم، في جنة الخلد، حيث لا نهاية لأبعاد ما يملك المؤمن فيها، لا من جهة الكم، ولا من جهة الكيف، وعندئذ تصغر الدنيا وممتلكاتها في عينيه، ويهون في نفسه أن يتنازل عن بعض ما يملك من مال أو عن كل ما يملك، ابتغاء مرضاة الله.

ويشتد في نفسه خلق حب العطاء حتى يكون جوادًا كلما كان في الجود مرضاة الله جل وعلا.

وتتوازن بذلك شخصية المسلم المؤمن، ويرق قلبه تجاه ذوي الحاجات، وتتهدم أنانيته المقيتة.

الوسيلة السادسة:
تدريب النفس على البذل، ولو عن طريق الإلزام.

قد تقف في وجه الإنسان مشكلة تغلبه على نفسه، في مصارعتها عند محاولات البذل والعطاء، إذ تخلي الإنسان القتور في أول مراحله عما يملك أمرٌ صعبٌ عليه.

ولكن تدريب النفس على البذل والعطاء مرة بعد مرة، مع معالجتها بالوسائل السابقة، قد يكسب النفس خلق حب العطاء، ففي المراحل الأولى يكون البذل صعبًا على النفس، ثم يسهل شيئًا فشيئًا، ثم يكون حلوًا، ثم تزداد حلاوته، حتى يكون ممتعًا للنفس ومسعدًا لها.

وقد صور الرسول صلى الله عليه وسلم معالجة النفس بهذه الوسيلة تصويرًا غريبًا ودقيقًا.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد (أي: درعان من حديد) قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقةٍ بمكانها.

هذا الحديث يصور حالة الأنفس تصويرًا بديعًا، ويمثلها تمثيلًا بارعًا، فيصور الأنفس لدى محاولات البذل والعطاء في سبيل الله، بلابس درعٍ من حديد، وهذا الدرع ضاغطٌ على الصدر، وليس له أكمام تنطلق منها اليدان حتى تتحركا بيسر وسهولة وحرية، يضاف إلى ذلك أن اليدين داخل الدرع مشدودتان إلى الثديين والترقوتين، في حالة تشبه الغل. وكذلك شحٌ الأنفس يأخذ باليدين فيجعلهما مغلولتين إلى العنق.

ويصور الرسول صلى الله عليه وسلم أثر التدريب العملي على البذل بقوله:

فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه

أي: انبسطت عنه حلقات الدرع شيئًا فشيئًا، بتكرار تدريب النفس على دفع الصدقة، وينفرج الدرع الحديدي الضاغط شيئًا فشيئًا، حتى تتحرر اليدان تحررًا تامًا، على أن هذا يختلف من إنسان لآخر، بحسب استعداد النفس ومقدار التدرب.

هذه الصورة التمثيلية تبرز مدى تأثير عمليات التدريب في اكتساب خلق حب العطاء، ونظيره سائر الأخلاق.

أما الذين لا يعالج نفسه بتحمل مشقة التدريب على اكتساب هذا الخلق، فقد صوره الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:

وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها

أي: قلصت الجنة -وهي الدرع- على يديه، وأخذت كل حلقة بمكانها فلم تنفرج؛ لأنه لم يجد من قوة إرادته ما يغلب به شح نفسه، الذي جاء تمثيله في الحديث بالدرع الذي تشتد حلقاته وتتقلص على الجسم واليدين معًا. وإنما أدخلت اليدان في الدرع كما جاء في التمثيل؛ لأنهما أداة العطاء عادة، وإنما ضمتا إلى الصدر والعنق؛ لأن هذه الصورة هي صورة البخل وصورة الشح، وهي الصورة التي يكنى بها عن الشح، ولذلك قال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29))

فالشحيح الذي يجعل يده مغلولة إلى عنقه، ولا ينفق في سبيل الله، إنسان قصير النظر، يعمل ضد مصلحة نفسه؛ لأن عمله هذا سيجعله يقعد ملومًا محسورًا على ما فرط في حق نفسه، وفرط في نصيبه من السعادة التي ينالها المنفقون في سبيل الله.

ومثله تمامًا المبذر