موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(4- دافع التملك عند الإنسان)
الوصف
حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية
4- دافع التملك عند الإنسان
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السابع: حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية >>
4- دافع التملك عند الإنسان
من المعترف به أن حب التملك أحد الدوافع النفسية عند الإنسان، وهو في مستواه المعتدل دافع نافع في الحياة، مفيد في عمران الأرض، وتنمية أرزاقها، واستخراج خيراتها، فإذا تجاوز حد الاعتدال، فدخل في دائرة الأنانية المفرطة، تولد عنه البخل والشح، وحب الاستئثار بكل شيء، والتسلط على كل شيء، فأمسى صاحبه ضنينًا لا يحب العطاء، ويصعب عليه التنازل عن أي شيء لغيره، ولو لم يكن بحاجة هو إليه.
وحين يقف عند حد الاعتدال، ويكون مقرونًا بالعقل الرشيد والإيمان الراسخ، فإن صاحبه ينفتح حينئذٍ على خلق الله بالمحبة، والمودة، وإرادة الخير، والرغبة بالمشاركة، فيندفع إلى إعطاء ذي الحاجة، بنفس هينة لينة سمحة، ويشعر بلذة في العطاء أشد من لذة البخيل بامتلاك المال الكثيرة، وتحصيل الربح الوفير.
فالإفراط في الأنانية هو الداء الذي يتولد عنه البخل والشح، وعلى مقدار ما يكون الإنسان غيريًّا محبًّا للآخرين يكون في نفسه حب عطاء لهم، ثم بالتدرب على العطاء والشعور بلذته في النفس يكون خلقًا من أخلاق النفس، وتتفاوت نسبة هذا الخلق في الأفراد، كسائر الأخلاق أسسها وفروعها.
ولئن كان حب التملك أحد الدوافع الفطرية، فإن الفضيلة الخلقية من شأنها أن تحد من الدوافع النفسية، وتضبطها عن الجنوح أو الغلو المفضيين إلى الفساد أو الضرر، وتحصرها في ضمن الدوائر التي تكون فيها نافعة مفيدة.
إن كل دافع من الدوافع النفسية له دائرة هو في ضمنها نافع ومفيد، فإذا تجاوز حدودها كان الزائد عليها ورمًا خبيثًا ضارًا مفسدًا يجب علاجه، وإلا استشرى ونما نموًا مهلكًا. ودافع حب التملك أحد هذه الدوافع.
وقد زين الله للناس حب التملك والتسلط على الأشياء لأمور عديدة من أمور الحياة: منها أن يتولد في الناس الرغبة بالسعي لتحصيل وسائل العيش وجمعها، وللقيام بعمران الأرض وبنائها، ولتحسين مرافق الحياة واستنباط الخيرات، وابتكار الأدوات والوسائل الحضارية الراقية، والرغبة بالقيام بالخدمات الخاصة والعامة وتبادل التعاون الحضاري بين الناس، كل ذلك بدافع الطمع بالاستكثار مما يحب الإنسان تملكه والتسلط عليه.
ولولا وجود دافع التملك في النفس الإنسانية لرضي الناس بأدنى المستويات التي تدفع عنهم حاجات العيش، ولتعطلت أمور كثيرة من أمور الحياة الإنسانية.
وفي بيان وجود دافع حب التملك لدى الإنسان، قال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14))
ففي هذه الآية بيان أن حب التملك لدى الإنسان ليس له حد، فهو يحب تملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، مهما كانت زائدة عن حاجاته في الحياة، ويحب أن يتملك الشيء الكثير من عناصر الأموال الأخرى.
ولوجود هذا الدافع في الإنسان كان بفطرته قتورًا، وكان الشح حاضرًا في نفسه قريبًا منها، وكان منوعًا، إلا من آمن وعمل صالحًا، وتعلقت آماله بالنعيم المقيم في جنة الخلد، فصعد حبه للتملك، وصرف معظم همه وهمته عن زينة الحياة الدنيا، وعلقها بحقائق النعيم العظيم المقيم في الآخرة.
قال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):
(قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا (100))
وقال الله تعالى في سورة (المعارج 70):
(إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27))
وقال تعالى في سورة (النساء 4):
(وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ ..... (128))
وقال تعالى في سورة (العصر 103):
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))
فالله تبارك وتعالى يبين أن الإنسان قتور، فهو لا ينفق إلا بتقتير، مهما كان يملك من أموال وأرزاق، ولو أنه يملك خزائن رحمة الله التي لا تنفد ولا تنقص. ويبين أن الإنسان هلوع، ومعنى هلوع: أنه إذا مسه الشر جزوع، وإذا مسه الخير منوع، فهو كثير الجزع والضجر عند نزول المصائب به، وكثير البخل منوع إذا بسط الله له الرزق. ويبين أن الشح حاضر عند نفسه قريب منها. ويبين أنه في محيط من الخسر.
ويستثني الله المؤمنين، المصلين المزكين، المصدقين بيوم الدين، الذين يخافون عذاب ربهم، ويعملون الصالحات ويتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر.
إذًا: فوسائل تقويم الإنسان، وتعديل اتجاه نفسه، وتصعيد دوافعه ومطالبه في الحياة، لا توجد إلا في الدين الذي ارتضاه الله لعباده.
من الواضح المعترف به أن الإنسان مفطورٌ على حب نفسه، ومن حبه لنفسه جزعه عليها إذا مسه الشر، وحرصه على كل ما يمكن أن تحتاج إليه، إن عاجلًا وإن آجلًا، ومحافظته على أي شيء قد يكون سبب متعتها ولذتها.
والإنسان في حدود هذه الفطرة العامة لا تنكر عليه فطرته، ولكنه مع ذلك مفطورٌ أيضًا على صفة أخرى باستطاعتها أن تضبط فطرة أنانيته عن الجنوح، فتكبحها كلما توثبت لتجمح، وتعدلها كلما أخذت سبيلها إلى الشطط وتجاوز حد الخير، ألا وهي العقل الجامع لقدرات المعرفة، وللإرادة ذات السلطان في قيادة السلوك وتوجيه دوافع النفس. ونستطيع في هذا المقام أن نسمي العقل في الإنسان ضابط التوازن.
إن قدرات المعرفة في الإنسان تستطيع أن تمد أنظارها بعيدًا إلى الخير الآجل، فتتبصر به، فإذا رأته أجلّ وأفضل من المتعة العاجلة، وجديرًا بأن يتحمل الإنسان للظفر به بذل ما يحلو لنفسه من متع عاجلة، وتحمل الصبر على المصائب والمكاره، قدمت مشورتها ونصحها للإرادة العاقلة، وهنا يأتي دور العقل:
فإما أن يوجه حركات النفس إلى الأجل الأفضل، فتصبر على مس المصائب القريبة، لتدفع بذلك ما هو أخطر منها وأشد ألمًا وأكثر إزعاجًا، وتجلب ما هو أكثر فائدة وأخلد نعيمًا.
وإما أن يتخاذل أمام عواء الشهوات والأهواء العاجلة، فيدع النفس تنطلق مع دوافعها الجاهلة الرعناء، حتى تطغى، وتتجاوز حدود الرأي الرشيد والعمل السديد، وتتجاوز حدود الخير والمنفعة.
فالإنسان أمام ما أعطاه الله من فطرٍ نفسية مفتوحة الحدود، وفطرة عقلية ضابطة للتوازن الخيّر، إما أن يكون نظره قاصرًا وإرادته متخاذلة، فيجعل حساسية حبه لنفسه مرتبطة بكل قريب عاجل، فيخسر بذلك مستقبله. وإما أن يكون نظره بعيدًا، فيوجه حساسية حبه لنفسه إلى ما وراء حدود الزمن القريب، ويربط هذا الحب بأكمل صنوف الخير، وأعظم أنصبة النعيم لنفسه.
وأعلى مستويات هذا النظر البعيد مستوى نظر المؤمنين بالله، فهم بإيمانهم ينظرون إلى الكمال الأسمى، وإلى جنة الخلد، وما فيها من نعيم مقيم، وينظرون إلى يوم الجزع الأكبر، وما فيه من عذاب أليم، فيهون عليهم أن يضحوا بالمتع العاجلة ويبذلوها، وأن يتحملوا الآلام العاجلة ويصبروا عليها؛ لأن ذلك هو الثمن في قانون العقل وسنن الله وشريعته لنيل ذلك الرفيع الأسمى، الذي هو أحب للنفس وأمتع وأرضى، ولدفع ما في يوم الجزاء من ألم هو أشد وأقسى وعذاب هو أمر وأدهى.
وفي حدود هذا النظر البعيد تكون فطرة الهلع في الإنسان مفيدة ونافعة، أما من دون ذلك فهي ضارة لهم، آخذة بهم إلى أودية الهلاك والخسران، والآلام الدائمة، والأحزان التي لا تزول، وإبرازًا لهذه الحقيقة، قال الله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))
فالإنسان بتعلقه بالعاجلة وإيثاره لها خاسر، وبنظره البعيد، وتعلقه بالآجلة وإيثاره لها رابح سعيد، والخسران الذي جاء في سورة العصر بالنسبة إلى عموم الإنسان يشير إلى واقع حال الدوافع والغرائز التي فطر عليها الإنسان، فهي تأخذ بيده إلى الخسران في حدود النظر القاصر أو ضعف العقل، ولا ينجيه من ذلك إلا بُعد النظر وإيثار الآخرة، الأمر الذي يتحلى به الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
ويشبه الاستثناء الذي جاء في سورة (العصر) الاستثناء الذي جاء في سورة (المعارج) فالإنسان قد خلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا، ولا ينجو من شرور هذا الهلع إلا المصلون لله، الذين هم على صلاتهم المفروضة دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، والذين يصدقون بيوم الدين، والذين هم من عذاب ربهم مشفقون.
وهذه الصفات هي صفات المؤمنين، ولما كانت الصلاة هي السمة البارزة في حياة جميع أفراد المؤمنين ذكرهم الله بوصف المصلين.
وهكذا: فالإنسان قتور في حدود نظره القريب القاصر وضعف إرادته أمام دوافع نفسه العاجلة، أما إذا كان بعيد النظر عاقلًا ودخل في زمرة المؤمنين فإنه لا يكون قتورًا. وعلى مقدار بعد نظره يتهدم من نفسه الحرص على الدنيا، وما فيها من متع ولذات، ويتولد بدل ذلك في نفسه حب العطاء، طمعًا بما ادخره الله للذين ينفقون في سبيله، وخوفًا مما أعتده الله من عذاب للبخلاء، الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، فلا يؤدون ما فرض الله في أموالهم من حقوق. وبين الخوف من العذاب والطمع بالثواب يستقيم سلوك المؤمن ذي النظر البعيد، ويحسن استغلال ما فطر عليه من طبائع، فينقلها إلى