موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(4- التوجيهات الإسلامية لإنفاق الأموال في سبيل الله)
الوصف
حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية
4- التوجيهات الإسلامية لإنفاق الأموال في سبيل الله
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السابع: حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية >>
4- التوجيهات الإسلامية لإنفاق الأموال في سبيل الله:
أغلى المال وأعزه على نفس مالكه ما وصل إليه بجهد بذله، إذ يشعر مالكه بأنه قيمة لما بذل في تحصيله من جهد، وكثيرًا ما يكون المال قيمة اعتبارية يقدر بها نسبة الجهد المبذول والطاقة المنفقة، فالقيمة الحقيقية هي للطاقة التي تبذل، والمال رمز لها، على أن الطاقة النافعة هي أثمن ما يملك، وأكرم ما يبذل، ولذلك كان العمل الصالح هو الثمن الذي تنال به المراتب الرفيعة في جنة الخلد، ولا يكون العمل إلا ببذل الطاقة، والطاقة جزء من كيان حياة الإنسان، وحياة الإنسان المشتملة على أنواع طاقاته هي رأس ماله، وهي الكنز الثمين الذي وهبه الله إياه.
وبهذه الاعتبارات المتداخلة يحب الناس المال، ويعتبرونه شقيقًا للروح، وبهذه الاعتبارات كان عطاء المال في سبل الخير من كبريات الفضائل، وبهذه الاعتبارات اشترك الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس في مجال فضيلة واحدة من فضائل الأخلاق وفضائل السلوك.
ولذلك جمع القرآن الكريم في آيات متعددة بين الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، إشارة إلى اشتراكهما في مجال فضيلة واحدة، وإشارة إلى ضرورتهما أو الحاجة الماسة إليهما في أمور كثيرة من أمور الحياة، ومن هذه الأمور الدعوة إلى دين الله، وإقامة الحق والعدل بين الناس.
ونستعرض فيما يلي طائفة من النصوص الإسلامية التي توجه المسلمين إلى إنفاق أموالهم في سبيل الله.
(أ) يقول الله تعالى في سورة (الحجرات 49):
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15))
فقد جعلت هذه الآية من أبرز سمات المؤمنين ثباتهم على عقيدتهم، وجهادهم بأموالهم وأنفسهم، لكن الشرط الذي لا بد منه في هذا الجهاد هو أن يكون في سبيل الله.
(ب) ويقول الله تعالى في سورة (الصف 61):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13))
ففي هذا النص القرآني إرشاد إلى تجارة عظيمة منجية، وقد جاء هذا الإرشاد في صورة استفهام مملوء برقة الدعوة (هَلْ أَدُّلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)
وبعد بيان العناصر التي أرشد إليها القرآن، وهي الثبات على الإيمان، والارتقاء في منازله، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، جاءت الإشارة إلى الأساس الأخلاقي العام الذي ترتكز عليه هذه العناصر، ألا وهو الأخذ بمبدأ الخير (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
وفي قوله تعالى: (إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) توجيه إلى أن هذا الأساس الأخلاقي في هذه العناصر أساس علمي ثابت، ومبدأ لا يجحده أهل البحث العلمي السليم، بل يثبتونه ويقرّونه ويأخذ به العقلاء منهم.
وفي قوله تعالى: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)) بيان لثمرات التجارة الرابحة التي أرشد إليها النص، وهي:
أولًا:
أن الله تعالى ينظر إلى صدق الذين آمنوا بالله ورسوله، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فيغفر لهم ذنوبهم، ويكفر عنهم سيئاتهم.
ثانيًا:
أن الله تعالى يجزيهم بالنعيم المقيم في دار الخلد، وذلك هو الفوز العظيم.
ثالثًا:
أن الله تبارك وتعالى يمنحهم ثوابًا معجلًا يحبونه ويرجونه في الدنيا، ألا وهو النصر على أعدائهم، والفتح القريب الذي يظفرون فيه بالمجد العظيم والمغانم الكثيرة. وقد تحقق وعد الله، وما يزال يتحقق في كل زمان.
(ج) ويقول الله تعالى في سورة (فاطر 35):
(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30))
هذا النص من النصوص التي نزلت في المرحلة المكية قبل أن يأتي دور الجهاد ببذل النفس، ولذلك كانت الدعوة القرآنية حينئذٍ توجه للإنفاق في سبيل الله، وتبين أن الأخذ بهذه الفضيلة أخذ بتجارة لن تبور، نظرًا إلى أن بذل المال شقيق بذل الروح، ومرحلة العمل هي التي تحدد ما ينبغي على المؤمنين بذله من مالٍ أو نفس، أو مالٍ ونفس معًا.
وفي المرحلة المكية كانت الدعوة إلى بذل المال، بالإضافة إلى المقومات الأخرى الفكرية والنفسية والجسدية واللسانية، هي الدعوة التي تستدعيها هذه المرحلة بالذات. ولذلك نجد في هذا النص توجيهًا لتلاوة القرآن، لاكتساب المعرفة الدينية الحقة، وترسيخها في أفكار المؤمنين ونفوسهم، ونجد توجيهًا لإقامة الصلاة، لاكتساب الصلة الروحية بالله، ثم توجيهًا للإنفاق في سبيل الله. ولكل ذلك ترجى التجارة التي لن تبور، أي: لن تكسد، فهي إذن تجارة رابحة، إذ يوفيهم الله أجورهم، ويزيدهم من فضله عطاءً، ويغفر لهم خطاياهم، ويشكر لهم صالحات أعمالهم، (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)
(د) ويقول الله تعالى في سورة (سبأ 34):
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39))
ففي هذا النص القرآني بيان لجملة من الحقائق المشجعة على الإنفاق في سبيل الله:
* أن الرزق بيد الله.
* أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، فليست القضية قضية جهد ولا ذكاء شخصي.
* أن الله يخلف للمنفقين في سبيله ما أنفقوه.
* أن الله هو خير الرازقين، فيرزق عباده وفق مقتضيات حكمته.
(هـ) ويقول الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَّشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267))
هذا نص عظيم في التوجيه للإنفاق الكريم المطلوب في الإسلام، المقرون بابتغاء مرضاة الله، وإكرام المبذول له في ذات نفسه وفيما يبذل له.
والآية الأولى من هذا النص، تصور مبلغ الربح العظيم الذي يحققه الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهو يتضاعف عند الله إلى أضعاف كثيرة، وتغمز في النفوس مركز الطمع، فتثيره إثارة قوية جدًّا، فيندفع إلى البذل في سبيل الله أملًا بتحقق الربح الكبير.
ومن بديع ما جاء في هذه الآية أنها لم تقل مباشرة: إن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله يضاعف لهم الثواب إلى سبعمائة ضعف، ولكنها دلت عليه في صوة تشبيهية، إذ شبهته بعمل زراعي عظيم الإنتاج، تنبت فيه الحبة الواحدة سبع سنابل، وتحمل كل سنبلة منها مائة حبة، وبعملية حسابية بسيطة يعطي ناتج الضرب سبعمائة.
والغرض من الإعلام بالأجر العظيم عن طريق هذا التشبيه، اجتذاب نفس السامع إلى عذوبة العرض وحلاوة التشبيه، ووضع المضاعفة الحسابية في صورة مشهودة، واستغلال فكرة الإنسان عن واقع النماء الزراعي الذي يعتمد على فضل الله في الحياة، لتقريب فضل الله العظيم جزاء ما يزرعه الإنسان في هذه الحياة من عمل صالح يقصد به وجه الله تعالى. فإذا كانت الزراعة في الأرض قد تعطي هذه المضاعفة في الربح، بفضل م