موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(3- التحذير من البخل من مظاهر الحب والعطاء)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(3- التحذير من البخل من مظاهر الحب والعطاء)
237 0

الوصف

                                                   حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية
                                                     3- التحذير من البخل من مظاهر الحب والعطاء
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السابع: حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية >>

3- التحذير من البخل من مظاهر الحب والعطاء :

(أ) قبل أن يحذر الإسلام من الشح والبخل، ويذم الأشحاء والبخلاء، أبان حقيقة من شأنها أن تشعر الإنسان بأنه ليس من حقه مطلقًا أن يبخل بشيء يقع تحت يده.

هذه الحقيقة هي أن أي شيء يملكه الإنسان في الصورة وفي عرف الناس، هو في حقيقته ملك لله، والإنسان موظف على إدارته، ومستخلف فيه.

قال الله تعالى في سورة (الحديد 57):

(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7))

ففي هذا النص القرآني بيان من وجهين:

الأول:

أن جميع ما في السماوات والأرض مملوك لله تعالى، وأنه داخل تحت سلطان ملكه.

الثاني:

أن ما تحت أيدي الناس من أموال هي لله تعالى، ولكن الله تعالى قد جعلهم مستخلفين فيها، ليمتحنهم في تصرفاتهم، وليختبر كيف تكون طاعتهم لأوامره ونواهيه، ولذلك قال تعالى: (وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي: ليس لكم فيه ملك كامل ثابت، ولكن لكم فيه استخلاف مؤقت، وهذا الاستخلاف عرضة للتبديل والتغيير من شخص لآخر، ومن أمة لأخرى، ثم يكون الميراث الحقيقي لمن له الملك الحقيقي، وهو الله تعالى مالك كل شيء، ولذلك قال الله تعالى في سورة (مريم 19):

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40))

ومع أن التغيير والتبديل في الاستخلاف من شخص لآخر، ومن أمة لأخرى، ظاهر في سنن الله الدائمة، فقد صرح به القرآن منبهًا عليه في مناسبات شتى، فمن ذلك قول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133))

ففي هذه الآية تهديد رباني بتحويل الاستخلاف، حينما يسيء المستخلفون، ويتعدون الحدود التي حدها لهم من استخلفهم.

أما الوعد الرباني بالاستخلاف المستقر الثابت، فهو للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويستقر لهم الاستخلاف ما داموا متحلين الصفات التي تؤهلهم له، فإذا فسدوا وانحرفوا كان شأنهم عرضة للتغيير والتبديل بحسب حكمة الله، كشأن غيرهم من الأمم، وهذا الوعد الرباني نجده في قول الله تعالى في سورة (النور 24):

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55))

وهكذا أكدت لنا النصوص أن الناس مستخلفون استخلافًا فيما تحت أيديهم، مما يرون أنهم مالكون له، وليسوا مالكين ملكًا حقيقيًّا.

وحينما نطلق كلمة الملك بالنسبة إلى الناس، فإنما نطلقها بمعنى إباحة التصرف بما تحت أيديهم، بموجب الإذن الرباني، وبالإضافة إلى مبادئ الحقوق فيما بينهم. أما بالنظر إلى الحقيقة الكبرى وواقع الأمر فالملك لله، وقد استخلف الله الناس فيما جعل تحت أيديهم من ملكه العظيم، مع أنهم وما استخلفهم فيه مملوكون لله خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم عز وجل.

(ب) وبعد أن أبان الإسلام الحقيقة السابقة حذر من الشح والبخل تحذيرًا شديدًا، وبين أن الشح قد كان سببًا في إهلاك الأمم السابقة، إذ حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم.

روى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم.

وحذر الله البخلاء من عاقبة بخلهم ببذل ما فرض الله عليهم بذله، فقال تعالى في سورة (آل عمران 3):

(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180))

ففي هذه الآية تخويف شديد من عقاب الذين يبخلون، فلا يؤدون ما فرض الله في أموالهم من حقوق، وإقناع لهم بأن بخلهم بما آتاهم الله من فضله شرٌ لهم وليس خيرًا لهم. والعاقل الرشيد إنما يسعى لجلب الخير لنفسه وإبعاد الشر عنها.

والعذاب الذي يخوفون منه هو أنهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، فما المراد من هذا التطويق؟

هو على وجه العموم تطويق عذاب بالشيء الذي بخلوا به في الدنيا، إنهم لما جعلوا أيديهم مغلولة إلى أعناقهم، فلم يبذلوا ما فرض الله في أموالهم، عوقبوا يوم القيامة بعقاب من جنس عملهم، إذ يجعل ما بخلوا به غلًا في أعناقهم يشتد عليها بالعذاب، وقد جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم تفسير هذا الغل بأنه ثعبان مخيف أقرع من شدة سمه، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بشدقيه، ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك.

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته، مثل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع  الشجاع الأقرع: هو الثعبان الخبيث الذي سقط شعر رأسه من كثرة سمه.   له زبيبتان  له زبيبتان: أي له نقطتان سوداوان فوق عينيه وهما تدلان على أنه من الأفاعي الخطيرة السامة.   يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

وبعد التخويف من هذا العذاب ختم الله الآية، بإعلان الحقيقة الكبرى التي تثبت أن الإنسان مستخلف فيما تحت يديه من أموال، وأن الميراث لله تعالى، فقال تعالى: (وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وبعد ذلك نبه على حقيقة علمه تعالى بما يعمل الناس فقال: (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

وقال الله تعالى في سورة (التوبة 9):

(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35))

فبشرهم بعذاب أليم: استعملت البشارة في جانب الإخبار بالعذاب الأليم على سبيل التهكم، وذلك لأنهم ينتظرون من كنزهم في الدنيا بشارات سارة تأتيهم، مما يمتعهم أو يضاعف ثرواتهم، فجاءت البشارة لفظًا فقط، وهي في الحقيقة إنذار، وفي تغليف الإنذار لهم بعبارة البشارة، تعذيبٌ نفسي لهم، في مقابل فرحهم في الدنيا بما كنزوا ومنعوا حقوق ذوي الحقوق.

وصورة العقاب للذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، أن يؤتى يوم القيامة بصفائح من ذهب وفضة، على مقدار ما كنزوا، فيحمى على هذه الصفائح في نار جهنم، حتى إذا اشتدت حرارتها وتوهجت، جاءت بها ملائكة العذاب، فيكوونه من جهاته الأربع، يكوون بها جبهته وجنبيه وظهره.

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

وقد دل هذا الحديث على أن عذاب الكانزين، بالكي، بالصفائح المحماة في نار جهنم، يكون يوم القيامة، والناس في موقف الحساب، قبل أن يتم القضاء بين العباد، ويؤخذ أهل الجنة للجنة وأهل النار للنار.

أما مانعو زكاة الإبل والبقر والغنم وغيرها من الأموال، فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنها كما جاء في تتمة هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، وأجاب الرسول بما يعلم مما أنزل عليه.

قال أبو هريرة: قيل: يا رسول الله فالإبل؟: قال:

ولا صاحب إبلٍ لا يؤدي منها حقها -ومن حقها حلبها يوم وردها- إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاعٍ قرقر (أي: بطح لها صاحبها بأرض واسعة ملساء مستوية) أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.

فقيل له: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال:

ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاعٍ قرقر، لا يفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء  عقصاء: أي ملتوية القرنين.   ولا جلحاء  جلحاء: أي لا قرون لها.   ولا عضباء  عضباء: أي مكسورة القرن.   تنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.

قيل: يا رسول الله، فالخيل؟ قال:

فالخيل ثلاثة: لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر. فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت أرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له، ورجل ربطها تغنياً وسترا وتعففا لم ينس حق الله في رقابها وظهورها فهي له كذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورئاء ونواء لأهل الإسلام فهي وزر على ذلك. والحديث صحيح رواه البخاري في الصحيح.