موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(المنهج التربوي القرآني في الحث على البذل)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية(المنهج التربوي القرآني في الحث على البذل)
244 0

الوصف

                                                    حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية

                                                    المنهج التربوي القرآني في الحث على البذل
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السابع: حب العطاء وفروعه وظواهره السلوكية >>

واتخذ المنهج التربوي القرآني أسلوب الإقناع بكمال ما يدعو إليه الرحمن من البذل في سبيل الله، وبأنه هو الحكمة في السلوك، وأسلوب استثارة الطمع بالتعويض العظيم على البذل اليسير في سبيل الله وابتغاء مرضاته.

* وتتلخص العناصر التطبيقية لهذا المنهج بما يلي:

العنصر الأول:
كشف خطة الدسائس الشيطانية ذات الوجهين المختلفين المتناقضين.

الوجه الأول:
التخويف من الفقر عند اتجاه النفس للإنفاق في سبيل الله، فحينما يسيطر في النفس الخوف من الفقر تنقبض عن العطاء، وتجبن عن البذل، وهذا ما دل عليه قوله تعالى في النص: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)

الوجه الثاني:
الدفع بقوة إلى ارتكاب الفحشاء من المعاصي والآثام، حتى مستوى الأمر بها، مهما احتاج ارتكابها إلى إنفاق أموال طائلة، وهذا ما دل عليه قوله تعالى عن الشيطان: (وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ)

ففي البذل في الخير يخوف الشيطان من الفقر، وفي البذل في المعاصي والآثام يأمر الشيطان بالفحشاء، وفي ذلك تحريض ضمني على الإسراف والتبذير، ولذلك كان المبذرون إخوان الشياطين قال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))

والبخلاء في الخير هم أيضًا إخوان الشياطين؛ لأنهم يتبعون خطواتهم، ويستجيبون لوساوسهم، ويحرمون أنفسهم من خير عظيم، ويعرضون أنفسهم لخسارة كبرى، فهم بذلك من كبار المبذرين.

العنصر الثاني:
الترغيب بحقيقتين من حقائق السنن الربانية الثابتة:

الأولى:
أن الله تبارك وتعالى قد وعد المنفقين في سبيله أن يعوض عليهم، ويزيدهم من فضله، فمن شأن الاقتناع بهذه الحقيقة أن يولد في الأنفس حب البذل والعطاء في سبيل الله، ومن نظر في سنن الكون تحقق لديه صدق هذا الوعد.

الثانية:
أن الله تعالى قد وعد الذين ينفقون في سبيله أن يغفر لهم، ويستر حالهم، ولو ضعفت نفوسهم فسقطوا في بعض المعاصي، وارتكبوا بعض الفواحش.

وفي هذا الغفران تطهير لهم وتزكية، وفي ستر حالهم تكريم لهم عن الحاجة التي قد تلجئ إلى المسألة.

وقد دل على هاتين الحقيقتين قول الله تعالى في النص: (وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)

فبين دعوة الرحمن ودعوة الشيطان تعاكس، كل منهما فيه أمرٌ بالبذل والإمساك، إلا أن دعوة الرحمن تجعل الإمساك فيما ينبغي فيه الإمساك، وهي سبل الفحشاء، وتجعل الإنفاق فيما يحسن فيه الإنفاق ويجمل، وهي وجوه الخير والبر. بخلاف دعوة الشيطان فهي على العكس من ذلك تمامًا، دعوة إلى التبذير فيما يجب فيه الإمساك، ودعوة إلى الإمساك فيما يجب فيه البذل أو يحسن.

إن دعوة الرحمن هي الدعوة إلى الحكمة، إذ تأمر بوضع الأشياء في مواضعها. أما دعوة الشيطان فهي دعوة إلى ركوب الحماقة، إذ تأمر بوضع الأشياء في غير مواضعها، ولذلك جاء في النص بعد بيان دعوة الرحمن ودعوة الشيطان قول الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ)

ثم قال الله تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)

* ما دام السياق يدور حول الإنفاق في سبيل الله، وبيان أركانه وشروطه وآدابه، فإن الإنفاق في سبيل الله يكون على نوعين:

النوع الأول:
العطاء المنجز.

النوع الثاني:
العطاء الموعود به على سبيل الالتزام تجاه الله تعالى، والملتزم به تجاه الله تعالى هو ما كان على سبيل النذر؛ لأن النذر في العطاء إذا كان في طاعة الله تعالى، وابتغي به وجه الله تعالى فهو وعد بالإنفاق يجب الوفاء به، وعند الوفاء به يكون من قبيل العطاء الواجب.

والغرض من الإعلام بأن الله يعلم صدقات المتصدقين، الإيماء إلى ما أعد الله للمنفقين في سبيله من أجر عظيم، قل أو كثر، خفي أو ظهر، فالله لا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض ولا في الأنفس.

وفي قول الله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار) تلويح للبخلاء مانعي الحقوق التي فرضها الله في أموالهم، وذلك بصفة رئيسية في هذا النص، نظرًا إلى أن السياق يدور حول الإنفاق في سبيل الله.

بيد أن عموم النص يتناول كل الظالمين، فما للظالمين من أنصار ينصرونهم من عقاب الله، فمانعو الحقوق في أموالهم ظالمون، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ظالمون، والذين يتبعون ما أنفقوا منًا أو أذى ظالمون أيضًا، وحسب الظالم أن يكون ظالمًا لنفسه، إذ يعرضها للعقاب، أو يحرمها ويفوت عليها عظيم الثواب.

* ولما كان للصدقة وجهان:

الوجه الأول:
أن يكون بذل الصدقة بصفة علنية.

الوجه الثاني:
أن يكون بذل الصدقة بصفة سرية.

قال الله تعالى: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)

فدلت هذه الآية على أن في كل من إبداء الصدقة وإخفائها خيرًا، إلا أن دفعها للفقراء بصفة خفية لا إعلان فيه خيرٌ وأفضل عند الله، وبه يكفر الله من سيئات المنفق في سبيله.

ولكن يشترط في إبداء الصدقة إخلاص النية، وعدم تسرب الرياء إلى القلب؛ لأن مراآة الناس في العمل محبطة للعمل بمقدار نسبة الرياء. وامتاز إخفاء الصدقة على إبدائها بفضل الأجر عند الله، وبتكفيره من سيئات المنفق، لأمور منها ما يلي:

أولًا:
لأن إخفاء الصدقة أكثر دلالة على الإخلاص في ابتغاء مرضاة الله من إعلانها، وأبعد عن تسرب الرياء إلى قلب المنفق.

جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:

ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.

ثانيًا:
لأن في إخفاء الصدقة سترًا لحال آخذ الصدقة، فكثير من الفقراء مستوري الحال يؤلمهم جدًّا أن يعلم الناس بفقرهم وحاجتهم إلى أخذ الصدقات، وقد يؤثر بعضهم الجوع والفاقة على سد الحاجة عن طريق أخذ الصدقات المعلنة.

قد نتساءل حول النص، فنقول: لماذا لم يأت إلى جانب قوله تعالى: (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ) بيان من تعطى إليه، وجاء إلى جانب قوله تعالى: (وَإِن تُخْفُوهَا) بيان من تعطى إليه، فقال تعالى: (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ )؟.

ولنا في الإجابة على هذا التساؤل وجوه:

الأول:
أن هذا القيد ملاحظ في حالة إبداء الصدقات وفي حالة إخفائها، إلا أن التصريح به في كل منهما يعتبر من قبيل الإسهاب والإطناب، فحذف من حالة الإبداء اكتفاء بالتصريح به في حالة الإخفاء، وهذا ما يقتضيه سمو التعبير البلاغي.

الثاني:
أن المفروض في الصدقات المعلنة أن تدفع لجباة الزكاة، لا للفقراء بأنفسهم، وفي هذه الحالة يظل الفقراء بعيدين عن التشهير بهم.

الثالث:
التصريح بإيتاء الصدقات للفقراء عند الحديث عن أفضلية إخفائها، يشعر بضرورة التحري عن الفقراء حقيقة، لئلا يأخذها الأغنياء من مستوري الحال وهم يزعمون سرًا أنهم فقراء، فبعض غير ذوي الحاجة من ضعفاء النفوس قد يدعون الفقر ويقبلون الصدقات سرًا، ولكنهم لا يفعلون ذلك علانية خشية أن ينكشف كذبهم، إذ يعرف بعض الناس حقيقة غناهم وعدم حاجتهم، فيلومونهم على أخذ الصدقات.

على أن من يأخذ الصدقات وهو غني أشنع حالًا من مانع الزكاة؛ لأنه بفعله هذا يأكل حقوق الفقراء بغير حق، فهو ظالم آثم.

ثم قال الله تعالى في النص الذي نتدبره من سورة (البقرة 2):

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272))

يبدو أن قول الله تعالى لرسوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) ضمن الحديث عن الإنفاق في سبيل الله، قد كان لمعالجة حالة نفسية كانت تعتمل في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان شديد الحرص على هداية كل المسلمين هداية عملية، وتحويلهم إلى متخلقين جميعًا بخلق حب العطاء، منفقين في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وعلى مستوى رفيع من درجات الكمال في هذا المجال.

وهذه الحالة النفسية الشديدة التي كانت تشغل بال الرسول صلوات الله عليه، وتمتلك قسطًا كبيرًا من مشاعره وهمه، كانت بحاجة ماسة إلى تعديل بالتربية الإلهية، فأنزل الله عليه ضمن الآيات التي تعالج موضوع النفقة قوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) فأعلمه بهذا أنه ليس من مسؤوليته في رسالته تحويل الناس إلى الهداية تحويلًا عمليًّا، ولكن مسؤوليته مسؤولية تبليغ وإرشاد وتربية، وأنهم هم المسؤولون عن سلوك سبيل الهداية بإراداتهم الحرة، أما القدرة على التحويل الفعلي إلى الهداية فهي من خصائص الله، الذي بيده الخلق والأمر، وبيده ملكوت السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير، وهذا لم يختره الله لنفسه بعد أن اختار للمكلفين من عباده أن يمتحن إراداتهم الحرة.

ولم يلبث النص بعد هذه المعترضة التربوية للرسول صلى الله عليه وسلم أن رجع إلى صلب موضوع الإنفاق في سبيل الله فالتفت إلى المؤمنين، ووجه لهم تربية إقناعية كافية لدفعهم إلى الإنفاق في سبيل الله، فقال لهم: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ) أي فلأنفسكم فائدته، ولأنفسكم ثمراته، ولكن هذا إنما يكون لكم في حال كون إنفاق