موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته((3) الحقد)
الوصف
بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته
(3) الحقد:
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>
(3) الحقد:
وقد يكون جحود الحق ورفض اتباعه والعمل به ناشئًا عن الحقد.
والحقد هو العداوة الدفينة في القلب، والعداوة هي كراهية يصاحبها رغبة بالانتقام من الشخص المكروه إلى حد إفنائه وإلغائه من الوجود.
ومن مرادفات الحقد تقريبًا: كلمة الغل، فالغل هو العداوة المتغلغلة في القلب. ومن مرادفاته أيضًا: الضغن والشحناء فهي جميعها كلمات تدور حول معنى واحد أو معانٍ متقاربة، ترجع بوجه عام إلى معنى العداوة، مع بعض فروق في الدلالات.
وكم دفع الحقد كثيرًا من الأفراد والأمم إلى جحود الحق، والتمرد على الاعتراف به أو اتباعه.
وقد امتدت دولة الإسلام بقوة الحق والعدل والجهاد، واكتسحت عقائد بالية، وصهرت شعوبًا كبرى، وقوضت إلى الأبد دولًا ذات شأن قديم كدولة فارس، وشتتت ديانات محرفة سابقة، فألقى كل ذلك أحقادًا سوداء على الإسلام والمسلمين في قلوب بعض المتعصبين لقومياتهم ومعتقداتهم ودولهم التي جرفها الإسلام بنوره المبين فيما جرف، أو نال منها نيلًا، فأفقدهم بذلك زعاماتهم الدينية أو السياسية في الأرض.
ونشأ من جراء هذه الأحقاد السوداء مؤامرات عديدة مقنعة وسافرة على الإسلام والمسلمين، في أحقاب التاريخ الإسلامي المتتابعة، وما يزال العالم الإسلامي يكتوي بنيران هذه المؤامرات المختلفة في أشكالها وألوانها وأساليبها. فمنها ما يحمل حربًا فكرية مسلحة بألوان شتى من المكر والخديعة، ومنها يحمل حربًا مادية مسلحة بكل قوة مادية مريعة، بغية تهديم الحق الذي جاء به الإسلام، فكان به مجد العرب وسائر الشعوب التي استجابت لدعوته، وبغية تفتيت وحدة المسلمين المتماسكة التي فيها سر قوتهم العظمى التي أذهلت الأمم والشعوب حقبة من الدهر، فهم ما يفتأون يخشون أن تعود هذه الوحدة الكبرى للمسلمين، وأن يعود ذلك الإيمان الصادق إلى قلوبهم.
ما للعاقل وللحقد؟!
إن الحقد حمل ثقيل يتعب حامله، يحمله الجاهل في صدره فيشقي به نفسه، ويفسد به فكره، ويشغل به باله، ويقض به مضجعه، ويكثر به همه وغمه. إنه كحمل من أحمال الشوك الملتهب الحار، المحشو بصخور ثقيلة محمية تنفث السموم التي تلتهب منها الصدور. ويظل الجاهل الأحمق يحمل هذا الحمل الخبيث مهما حل أو ارتحل، حتى يشفي حقده بالانتقام ممن يحقد عليه.
* وحين نحلل الحقد إلى عناصره نجده يتألف من العناصر التالية:
الأول:
الكراهية الشديدة إلى حد البغض العنيف.
الثاني:
الرغبة بالانتقام وبإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.
الثالث:
إمساك العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات، أو بمثيرات جديدة للكراهية والرغبة بالانتقام، وتركهما يربوان ويتفاعلان مع الزمن، فمن تفاعلهما واتحادهما وتناميهما وتغلغلهما داخل النفس يتكون ما نسميه بالحقد أو الغل أو نحو ذلك من أسماء.
والحقد يعيش على حساب كثير من الفضائل وجوانب الخير داخل النفوس. إنه يأكل كثيرًا من فضائل النفوس فيربو على حسابها.
فما أشبهه بالخراج الداخلي الذي يأكل اللحم السليم والدم النقي، ويتلف الأعصاب، وينخر العظام حتى يصل إلى نقيها فيلتهمه.
الحقد داءٌ دفين ليس يحمله إلا جهول مليء النفس بالعلل
مالي وللحقد يشقيني وأحمله إني إذن لغبيٌ فاقد الحيل؟!
سلامة الصدر أهنا لي وأرحب لي ومركب المجد أحلى لي من الزلل
إن نمت نمت قرير العين ناعمها وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي
وأمتطي لمراقي المجد مركبتي لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي
مبرأ القلب من حقدٍ يبطئني أما الحقود ففي بؤس وفي خطل
إنه ليس من صفات المؤمنين أن يحملوا الحقد في صدورهم، وذلك لأن الأصل في صدورهم أن تكون مملوءة بالمحبة وإرادة الخير للآخرين، ومتى امتلأت القلوب بالمحبة وإرادة الخير للآخرين لم يجد الغل مكانًا فيها ينزل فيه، ولئن مرت الكراهية أو البغضاء فيها عابرة سبيل فإنها لا تستطيع أن تجد فيها شاغرًا تقيم فيه. إن هذه العوارض القذرة غريبة عن صدور المؤمنين وقلوبهم، وتظل دائمًا غريبة لا تستطيع أن تجد لها فيها وطنًا.
في سورة الحشر تحدثت الآيات عن المهاجرين والأنصار وأثنت عليهم، ثم تحدثت عن المؤمنين الذين جاؤوا من بعدهم، فوصفتهم بأنهم يدعون بالمغفرة لأنفسهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، ويسألون ربهم أن لا يجعل في قلوبهم غلًا للذين آمنوا، قال الله تعالى في سورة (الحشر 59):
(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (10)) .
إن الأخوة الإيمانية والغل لا يجتمعان في قلب واحد، إن عاطفة المؤمن نحو إخوانه المؤمنين تتدفق بالمحبة، فكيف يجد الغل إلى هذه العاطفة الكريمة سبيلًا؟! إنهما أمران لا يجتمعان. قد ينال المؤمن من أخيه أذى، وقد يكرهه لذلك أو يعاديه انتصارًا لنفسه، ولكن هذه العوارض لا تستمر في قلب المؤمن، فهي لا تتحول إلى عداوة دفينة في القلب، وحقد وغل متغلغل في الصدر، يتربص الدوائر بأخيه المؤمن، بل يجد المسامحة والعفو أهنأ له وأسعد وأرضى لله، وإن ناله من أخيه ما يكره من ضرٍ أو أذى.
بهذه الأخلاق الكريمة يتحلى المؤمن الفاضل، وبهذه الفضائل الكريمة تتحول العداوات الشخصية إلى مودات جماعية، قال الله تعالى في سورة (فصلت 41):
(وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)) .
ولما كانت الجنة دار سعادة ونعيم عام وشامل كان لا بد لأصحابها من أن يكونوا مبرئين من كل حقد وغل، ومن كل علة خلقية تسبب لهم آلامًا وأكدارًا. وقد وصف الله أهل دار النعيم يوم القيامة بأنهم مبرؤون من كل غل، وما كان من غل في صدورهم في الدنيا فإن الله ينزعه منها متى دخلوا الجنة، قال الله تعالى في وصف أصحاب الجنة في سورة (الأعراف 7):
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)) .
وقال الله تعالى في سورة (الحجر 15):
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَّعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)) .