موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته((2) الرغبة بالفجور استجابة لأهواء النفس وشهواتها)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته((2) الرغبة بالفجور استجابة لأهواء النفس وشهواتها)

الوصف

                                                    بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                        (2) الرغبة بالفجور استجابة لأهواء النفس وشهواتها
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

(2) الرغبة بالفجور استجابة لأهواء النفس وشهواتها:

قد يكون جحود الحق ناشئًا عن الرغبة بالفجور، وهو التدفق الوقح إلى فعل الشرور والآثام، وهذه الرغبة تأتي استجابة إرادية لأهواء النفس وشهواتها.

وقد ذكر القرآن هذا السبب من أسباب جحود بعض الناس للحق، فقال الله تعالى في سورة (القيامة 75):

(بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)) .

فهو يريد أن يفجر فيما يستقبل من حياته، فيفعل ما يهوى وما يشتهي من شر وضر، وإثم وعدوان، وظلم وطغيان، دون أن يشعر في نفسه بعقبة خوف من المصير، ودون أن يشعر في أعماق وجدانه بوخز من ضمير، فيقول منكرًا يوم الدين: (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) ؟ أي: متى يكون يوم القيامة؟ وهذا سؤال متعنت مستبعد منكر، فهو يعتمد في رفضه يوم الدين على مجرد الاستبعاد، ويورد هذا الاستبعاد على طريقة الاستفهام عن زمن هذا اليوم.

وواقع حال فجور الجاحدين وطغيانهم يشهد بأن إرادة الفجور هي التي دفعتهم إلى التكذيب بيوم الدين، ولذلك وصف الله تعالى الذين يكذبون بالآخرة ولا يؤمنون، بأنهم عن الصراط لناكبون، أي هم عن الصراط الذي يلزمهم بفعل الخير وترك الشر منحرفون وخارجون، وهو صراط الإسلام، ووصفهم بأنهم في طغيانهم يعمهون، ووصفهم بأنهم قساة القلوب ظالمون، يدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين، ووصفهم بأن من خلائقهم الاعتداء والمبالغة في الإثم، كل هذه الصفات نجدها في مجموعة النصوص التالية:

(أ) قال الله تعالى في سورة (المطففين 83):

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)) .

(ب) وقال الله تعالى في سورة (الماعون 107):

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)) .

يدع اليتيم: أي يدفعه بعنف وجفوة، فيقهره ولا يطعمه ولا يكرمه ولا يحسن إليه.

(ج) وقال الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):

(وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)) .

عن الصراط لناكبون: أي عن طريق الإسلام الذي هو الصراط الحق لعادلون جائرون منحرفون. يقال: نكب عن الطريق إذا عدل عنها.

إذا هم فيه مبلسون: أي يائسون من النجاة، ساكنون سكون الذعر القاتل لكل حركة هرب أو دفاع.

فالرغبة بالفجور استجابة لأهواء النفس وشهواتها من الأسباب الدافعة إلى جحود الحق، والتمرد على اتباعه.

أما أهواء النفس وشهواتها فهي من دون العقل الإيماني حمقاء رعناء جاهلة تندفع اندفاعًا بهميًّا أعشى، وهي في أغلب حالاتها تميل إلى اغتنام اللذات العاجلة، ولو كان من ورائها مضار وآلام كثيرة آجلة، وتميل إلى زخرف الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها، ولو كان في ذلك سخط الله ومعصيته. فمن طبع أهواء النفوس أنها تؤثر العاجلة وتذر الآخرة، ما لم يضبطها ضابط من العقل الصحيح الراجح، المقرون بالإرادة الحازمة، أو ضابط من الإيمان الراسخ والدين المهيمن على النفس، والمتغلغل في أعماق القلب والوجدان.

لذلك كان اتباع الأهواء والشهوات من الأسباب المضلة المبعدة عن صراط الله المستقيم، والمفضية بالإنسان إلى مواقع تهلكته.

ولذلك كانت الأهواء والشهوات من الوسائل التي تستغلها الشياطين للإغواء فتدغدغها وتثيرها، وتوجهها للانحراف عن صراط الله، ولا تزال تسيطر عليها شيئًا فشيئًا، حتى تكون أسلحة فتاكة في أيديها. فقد تستدرج الإنسان عن طريق أهوائه وشهواته حتى تدفع به إلى جحود الحق، والكفر بالله، بعد أن تعبر به جسور المعاصي والآثام، وتبدأ سلسلة الاستدراج بأن تعبر به جسور صغائر الذنوب، ثم تنتقل به إلى عبور جسور بعض كبائر الذنوب، ثم تنتقل به إلى عبور جسور الكبائر الكبرى، ثم تدفع به إلى مواقع الكفر.

لكن المؤمن يستطيع أن يطوع أهواء نفسه فيجعلها تتعلق بفعل الخير وابتغاء مرضاة الله، للظفر بالخيرات الآجلة، والسلامة من موبقات المتع والشهوات العاجلة المحرمة، وذلك بالتدريب الطويل المقرون باستحضار التصورات الإيمانية ومراقبة الله، وتذكر ما أعد الله من ثواب عظيم للمتقين والمحسنين.

ويستطيع المؤمن أن يسلك بنفسه وأهوائها صاعدًا بها في معارج الكمال، ومحولًا أنظارها عن التعلق بالمحقرات الفانيات، إلى التعلق بالعظائم والكمالات الخالدات، ولذلك جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:

لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به.

وهذا هو التصعيد لأهواء الأنفس وشهواتها، بغية الارتقاء بها عن مستوى المتع واللذات العاجلة، إلى مستوى الخيرات والسعادات الآجلة، ولا يتم هذا ما لم تخضع النفوس للتدريبات الإيمانية الإسلامية القاسية الطويلة المدى، مع تجديد استحضار التصورات الإيمانية باستمرار.

ولما كان الأصل في أهواء النفوس وشهواتها أنها حمقاء رعناء ميالة إلى حب العاجلة وعدم التطلع إلى الآخرة، حذرنا الله من اتباعها، وجعل عقولنا وإرادتنا مسؤولة عن حسن قيادتها، وشد أعنتها، حتى لا تجمح إلى مواقع الإثم والشر والعصيان، فالفجور فالطغيان، فالكفر والتمرد على اتباع الحق وطاعة الرحمن.

فمن نصوص التحذير من اتباع الهوى ما يلي:

(أ) قول الله تعالى في سورة (الروم 30):

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29)) .

ففي هذه الآية بين الله أن من الأسباب الموصلة إلى الظلم والموقعة فيه اتباع الأهواء، والظلم مظهر من مظاهر مجانبة الحق. وباتباع الظالمين أهواء نفوسهم ضلوا، فحكم الله عليهم بالضلالة حكمًا عادلًا، فمن يستطيع أن يحكم بهداية من حكم الله عليه بالضلالة؟! ومن يستطيع أن ينصره من عقاب الله؟! لا أحد.

(ب) وقول الله تعالى يخاطب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في سورة (القصص 28):

(فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)) .

أي: فإن لم يستجيبوا لك يا محمد فيما تدعوهم إليه من الحق، فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، فسبب انصرافهم عن الاستجابة للحق إنما هو اتباعهم أهواء نفوسهم.

ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله؟!

أي: لا أحد أكثر منه ضلالًا؛ لأن الهوى الذي لا يعصمه هدى من الله مضل حتمًا عن صراط الله، وقاذف بصاحبه إلى مواقع الظلم، والله لا يهدي القوم الظالمين، أي: لا يحكم لهم بالهداية، بعد أن اختاروا لأنفسهم أن يكونوا ظالمين.

(ج) وقول الله تعالى في معرض الحديث عن المؤمنين والكافرين في سورة (محمد 47):

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)) .

أي: لا يستوي المؤمنون الذين هم على بينة من ربهم والكافرون الذين زين لهم سوء أعمالهم، واتبعوا أهواءهم.

فعلة نفوسهم التي سببت لهم جحود الحق والكفر به أنهم اتبعوا أهواءهم.

(د) وقول الله تعالى في معرض الحديث عن المنافقين في سورة (محمد 47):

(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ (17)) .

فهؤلاء المنافقون يجلسون مجالس العلم الرباني، ويستمعون لأقوال الرسول، ولكن قلوبهم مطبوع عليها، فهم لا يفقهون مما يستمعون بآذانهم شيئًا. وعلة نفوسهم التي انحرفت بهم عن الحق أنهم اتبعوا أهواءهم، لذلك فإن الله يجري فيهم سنته القاضية بأن من اتبع هواه فضل بذلك أصابه الطبع على قلبه، فهو لا يفقه ما يلقى عليه من هداية وإرشاد؛ لأنه لا يستمع إليه استماع باحث عن دلالته، أو لا يصغي إليه سمعه أصلًا.

(هـ) وقول الله تعالى في سورة (القمر 54):

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3)) .

فهؤلاء الذين كذبوا برسالة محمد صلوات الله عليه إن يروا آية عظيمة من آيات الله كآية انشقاق القمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضوا عنها، ولا يصدقوا بدلالتها، ويقولوا: سحر مستمر، أي هذه الآيات هي من قبيل السحر الذي يأتي به محمد بصفة متكررة دائمة، أو هو من قبيل السحر القوي الذي بلغ حد التأثير في أجرام السماء.

وعلة نفوسهم أنهم اتبعوا أهواءهم، ألا فليعلموا أنه لا يضيع من تكذيبهم واتباعهم أهواءهم شيء، فكل أمر يجري منهم ومن غيرهم مستقر في علم الله وفي سجل صحائفهم سيحاسبون عليه بالعدل.