موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(سلوك المستكبرين عن اتباع الحق في تبرير واقعهم)
الوصف
بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته
سلوك المستكبرين عن اتباع الحق في تبرير واقعهم
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>
سلوك المستكبرين عن اتباع الحق في تبرير واقعهم ولتكثير السالكين في طريقهم:
يتخذ المستكبرون عن اتباع الحق وسائل كثيرة يبررون فيها رفضهم لاتباع الحق، ووسائل عديدة يضلون بها الناس، بغية تقوية جبهتهم، وتكثير سواد أنصارهم وأتباعهم، أو السائرين على مثل طريقتهم.
فمن هذه الوسائل: الجدال بالباطل وتنميق زخرف القول، ومنها الهزء والسخرية بالحق ودعاته وأنصاره، ومنها استدراج جماهير أقوامهم إلى مجامع اللهو واللعب ومراتع الشهوات ليصرفوهم عن استماع الحق ويصدوهم عن سبيل الله.
وقد أبان القرآن ذلك من وسائلهم:
(أ) أما جدالهم بالباطل، فقد بينه الله بقوله في سورة (غافر 40):
(إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)) .
(إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ) : أي ما في صدورهم إلا كبر.
ففي هذه الآية تصوير بديع للكبر الحاجب للذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم.
فهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق؛ لأن كبرهم عن اتباعه قد زاد عن مواقع قلوبهم حتى ملأ صدورهم كلها، فكأن صدورهم قد خلت من كل شيء إلا من الكبر، وكأن كبرهم قد زاحم كل شيء في صدورهم، واحتل مكانه (إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ) .
ولكن هذا الكبر الذي في صدورهم ما هم ببالغيه، أي: واقعهم لا يبلغ مهما اجتهدوا وعملوا في تحصيل المجد ما في صدورهم عن أنفسهم من أوهام استكبروا بها.
فهم بين الكبر في نفوسهم وواقع حالهم على طرفي نقيض، إن كبرهم يجعلهم ينتفخون في نفوسهم، حتى يتصوروا توهمًا أنهم يعلون على كل مجد، وواقع حالهم يتصاغر بهم حتى يضعهم في مواقعهم التي هم عليها في حقيقة حالهم، فهم بين متناقضين من واقع حالهم وأوهامهم عن أنفسهم، كشفه الله في الصورة البديعة التي وصفهم بها: (إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ) .
وداء الكبر هذا قد ينمو نموًا قاتيلًا حتى يعمي البصيرة، ويجعل القلوب لا تعي شيئًا إلا ما يرضي كبر الأنفس، وهذا ما عبر القرآن عنه بالطبع على القلوب، قال الله تعالى في سورة (غافر 40):
(الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)) .
إن هذا الطبع على كل قلب المتكبر الجبار يدل على انطماس بصيرته كلها بسبب الكبر، فهو لا يعي من الحق شيئًا، ما دام يمس جانب كبره.
ويؤكد معنى الطبع على القلوب بسبب الكبر قول الله تعالى في سورة (الأعراف 7):
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)) .
(ب) وأما الهزء والسخرية، والصد عن آيات الله بالملهيات والمسليات والاستدراج إلى مراتع الشهوات، فقد بينه الله في نصوص كثيرة.
منها قول الله تعالى في سورة (لقمان 31):
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)) .
فهذا فريق مستكبر من أعداء الحق، يبذل من ماله ووقته وفكره، ليصرف الناس عن الهداية، ويتخذ لذلك وسائل شتى من الملهيات والمسليات السمعية والبصرية وغيرها، فيملأ بها أوقات الذين يريد إضلالهم، ويستنفذ بها طاقاتهم الفكرية والنفسية والجسدية، فإذا وجهت له نصيحة طيبة، أو موعظة حسنة، أعرض عنها إعراض المشمئز المستنكر، وانصرف مستكبرًا عن سماع الخير، وأصر على تماديه في باطله.
وهذا الفريق يتخذ خطة أخرى لتبرير عدم استجابته للحق، ولصد غيره عن اتباعه، هي خطة الهزء والسخرية، كأن الحق الذي يدعو الدين الناس إليه قد بلغ من الضحالة والسخف والسفاهة مبلغًا يسمح لهم بأن يستهزئوا به ويسخروا منه.
وكثيرًا ما نرى أعداء الحق يستخدمون سلاح الهزء والسخرية لصرف ضعفاء الإرادة عن سلوك سبيل الهداية، والتزام شريعة الله، إنهم إذا رأوا مسلمًا مؤمنًا يقوم ببعض ما يوجبه عليه الإسلام –كالصلاة أو الحشمة أو البعد عن الفواحش والمنكرات- سلقوه بألسنة حداد من الهزء والسخرية وكل لاذع من القول؛ ويخترعون لذلك ألفاظًا شتى يحملونها معاني تشعر بأنها أمور قبيحة جدًّا، فإذا وضعت تحت البحث تبين أنها فارغة جوفاء، وهم إذا رأوا ملتزمًا بخلقه ودينه نضحوه بعبارات مختلفة، فقالوا: رجعي، متعصب، متزمت، جامد، شيخ، سخيف، قديم، متخلف، أو نحو هذه العبارات. ويهزؤون بالأخلاق الفاضلة، والمكارم الحميدة، والعفة، والقيام بالفروض الدينية، وينعتونها بصفات الرجعية والتخلف والجمود ونحو ذلك.
ومنها قول الله تعالى في سورة (الجاثية 45):
(وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9)) .
فهذا فريقٌ أفاك أثيم، إذا تليت عليه آيات الله –وفيها الحق المبين- ولى منصرفًا عنها، مستكبرًا عن طاعة الله، كأن لم يسمعها، وكأن في أذنيه وقرًا يمنعه من سماع الحق، ثم إذا علم على سبيل المصادفة شيئًا من آيات الله المنزلة اتخذها هزوًا، فأخذ يلوك لسانه بها مستهزئًا ساخرًا منها.
فبشره إذن أيها المبشر بعذاب أليم، ومع أن العذاب الأليم لا يكون الإخبار عنه بشارة، إلا أن اللائق به أن يعاقب على استهزائه بالاستهزاء، فيقدم له الإنذار في ثوب بشارة.
وله عذاب مهين مذل عقابًا له على كبره الذي رفض بسببه اتباع الحق.