موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(تعريف الرسول للكبر)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(تعريف الرسول للكبر)
216 0

الوصف

                                                               بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                                         تعريف الرسول للكبر
                                              الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

تعريف الرسول للكبر:

وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الكبر بأبرز مظاهره في السلوك، روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر

فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس.

فعرف الرسول الكبر بأنه بطر الحق وغمط الناس. وهو تعريف له بأبرز مظاهره السيئة في السلوك. ونشرح هذا التعريف النبوي فنقول:

البطر: يستعمل في عدة معانٍ، ففي المشي والحركة والعمل يدل على التبختر والخيلاء والخروج عن حد الاعتدال والاتزان في ذلك. والبطر عند مفاجأة النعمة يدل على التصرف المعبر عن الدهش والحيرة وقلة الاحتمال. والبطر عند دوام النعمة الكثيرة يدل على الطغيان فيها والخروج عن حد الاعتدال إلى الإسراف والتبذير والاستهانة. والبطر في أحوال المسرة يدل على شدة المرح والإفراط فيه. والبطر عند مواجهة الحق يكون بالاستعلاء عليه والاستكبار عن قبوله والتقريظ في شأنه، والاستهانة به، وكما أن بطر النعمة يكون بالاستهانة بها والطغيان فيها، والتعالي عليها، كذلك بطر الحق يكون جحودًا له، وتفريطًا فيه، واستهانة بشأنه، والحق من أعظم النعم التي تساق إلى الإنسان، والتي يجب أن تقابل منه بالاحترام والقبول والشكران، فبطر الحق يعني جحود الحق، مع الاستهانة به، والاستعلاء عن قبوله، وهذا أقبح صور الكبر.

ولكن كيف نتصور أن يكون عدم قبول الإنسان للحق نوعًا من أنواع الكبر أو مظهرًا من مظاهره؟

وفي الإجابة على هذا التساؤل نقدم أمثلة عملية كاشفة: إننا نجد كثيرًا من ذوي المكانة أو الرياسة أو السلطان في قومهم، إذا عرض عليهم من هو دونهم في المكانة أو الرياسة أو السلطان أمرًا هو حق لا شك فيه، ولكنه جاء مخالفًا لرأيهم أو لما كانوا قرروه أو عملوا به، جحدوه، وأنكروه، واحتقروه، واستصغروا صاحبه، وأصروا على مخالفته، وإن ظهر لهم أنه حق، وربما كانت مصلحتهم الخاصة في جانب الحق، لا في جانب الباطل الذي أصروا عليه. هذا الصنف من الناس موجود بكثرة، وكثيرًا ما نجده في المستويات العادية، وفي الدوائر الإنسانية الصغرى، في الأسرة، في المدرسة، في مكتب العمل، بين الزملاء.

وحين لا يكون رفض الحق وعدم الأخذ به ناشئًا عن هوى نفسي خاص لا يأتي إلا من جهة الباطل، فإننا لا نجد مبررًا له إلا استكبار الجاحدين عن قبول الحق الصادر عن غير رأيهم.

وإذا أردنا أن نحلل طيوف أنفسهم تحليلًا دقيقًا، وتغلغلنا في البحث إلى أعماق مشكلتهم النفسية ظهر لنا كبر نفوسهم بأقبح صورة.

إن الذي تأتيه فكرة الحق من الآخرين، فيرفضها، ثم يقاومها، دون أن يكون له هوىً خاص في مخالفتها لذاتها، ولو أنها كانت من نتاج رأيه لكان من الداعين لها، والمفاخرين بها، والمتعالين بين الناس بأنه هو صاحبها ومبتكرها، لا يفعل ما يفعله إلا بدافع من الكبر القبيح في نفسه.

إن المحذور الذي يخشاه إذا هو تقبل الحق الصادر عن غيره أن ينال المجد ذلك الذي صدر عنه الحق أو دعا إليه، فيكبر به عند الناس، وينازعه مكانةً اجتماعية يطلبها لنفسه.

على أن هذا المحذور لا يعدو أنه نسيج من الأوهام، ولو أنه عقل وتبصر بحقيقة الأمر، لعرف أن المجد الذي يظفر به حينما يقبل الحق ويرجع إليه من أي مصدرٍ أتى أجل وأعظم مما يريد المحافظة عليه لنفسه.

فالاستكبار خطة غبية وفاشلة لنيل المجد والمحافظة عليه بين الناس، وذلك لأن الناس الآخرين مثله، يعرفون دوافع النفوس، ويحقرون في نفوسهم المستكبرين، ويستصغرونهم، ويعطون المجد الحقيقي للذين يقبلون الحق ويرجعون إليه، ولا يستكبرون عنه. الناس يكرهون المستكبرين، ويحبون المتواضعين موطئي الأكناف، ويعطون المجد الحقيقي للذين يحبونهم، أما الذين يستكبرون عليهم فيستصغرونهم ويحتقرونهم، وهذا من الجزاء الرباني الساري ضمن سنن الله الاجتماعية التي فطر الله الناس عليها.

يضاف إلى ذلك أن الله تبارك وتعالى ييسر للذين يتواضعون ابتغاء مرضاته ما يرفعهم ويعلي أقدارهم، ويضع في طرق المستكبرين عقبات تصدهم عن بلوغ المجد، ومزالق تزلق بهم إلى المهانة والصغار، فمن استكبر على الحق وضعه الله، ومن تواضع لله رفعه الله.

روى البيهقي في شعب الإيمان عن عمر قال –وهو على المنبر-: يا أيها الناس تواضعوا، فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

من تواضع لله رفعه الله، فهو في نفسه صغير، وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله، فهو في أعين الناس صغير، وفي نفسه كبير، حتى لهو أهون عليهم من كلبٍ أو خنزير.

إن المجد الذي ناله عمر بن الخطاب بقبوله الحق، ورجوعه إليه، وعدم استكباره في نفسه بما وصل إليه من سلطان لم يكن ليظفر بعشر معشاره لو كان مستكبرًا عنيدًا، مغرورًا بنفسه، معجبًا برأيه.

ومن لطائف خوف عمر على نفسه من الكبر، ومن العجب بالنفس، ومن الخيلاء، أنه ركب ذات يوم برذونًا، فجعل هذا البرذون يتبختر به، فأخذ يضربه فلا يزداد إلا تبخترًا، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي.

وقصته حين مقدمه في فتح بيت المقدس، وما كان فيها من مظاهر تواضعه لله وعدم استكباره في الأرض، قصة معروفة مشهورة، وهي من روائع قصص العظماء، إذ كان يتناوب الركوب هو وخادمه، وكانت النوبة الأخيرة قبيل الوصول أن يركب خادمه الناقة ويكون هو الذي يقودها ماشيًا، ووصل إلى القوم وهو يقوم بنوبته هذه، فلم يقلل ذلك من مجد عمر رضي الله عنه، بل زاده مجدًا إلى مجد، ومكانة إلى مكانة.

لقد تعلم عمر من الرسول صلوات الله عليه كيف يكون تواضع الفاتحين.

هذا بطر الحق، وهو الجزء الأول من التعريف الذي عرف الرسول صلى الله عليه وسلم به الكبر. ويتلخص بطر الحق بأنه جحود الحق مع استهانة به واستعلاء عليه، إرضاء للنفس الأنانية المستكبرة، التي تريد الاستئثار بالمجد والكبرياء في الأرض، وتستعلي عن اتباع غيرها وطاعته، مهما كان الحق والخير في جانبه، وتستعلي عن الرجوع إلى الحق وإن تبين لها خطؤها، عنادًا وإصرارًا على الباطل، وترى أنها أكبر من أن تستجيب لدعوة الحق من غيرها، وأكبر من أن يخفى عنها أمرٌ ويعلمه آخرون.

أما الجزء الثاني من التعريف الذي عرف به الرسول الكبر، وهو "غمط الناس".

الغمط:
هو الاحتقار، والازدراء، والاستصغار، وعدم مقابلة الإحسان بالشكر.

فغمط الناس هو احتقارهم، واستصغارهم، والازدراء بهم، والاستهانة بأقدارهم، وعدم شكرهم على إحسانهم، والترفع عن الثناء عليهم بفضائلهم، وعدم الاعتراف بحقوقهم الأدبية وصفاتهم الفاضلة. ويصل طغيان هذا الغمط في أقصى مده إلى محاولة حرب الناس لهدم فضائلهم، وطمس كمالاتهم، وتحقيرهم وتصغيرهم بين الناس بالكذب والزور والبهتان، بغية احتفاظ المستكبر بالمكانة الاجتماعية لنفسه دون الآخرين. فهو إذا لم يستطع أن يعتلي مكانة المجد بكمالاته، فليعلها بتحطيم كمالات الآخرين، وتهديم مكاناتهم الاجتماعية، هكذا تأمره نفسه الشريرة الأنانية المستكبرة.

وعلى مقدار ما يكون في نفس المستكبر من كبر، وحرمان من خشية الله، وعدم تقدير لعواقب الأمور، يكون غمطه للناس، ويخف ذلك متى تناقص الكبر، أو حصلت نسبة من خشية الله، أو كان صاحب هذا الخلق عاقلًا حصيفًا يحسن تقدير عواقب الأمور ونتائجها. ومتى عظمت الخشية من الله، واستقام العقل في تقديره للعواقب، صلح حال الإنسان، وشفي من مرض الاستكبار بغير حق، ووجد أن المجد العظيم الذي يحققه بطاعة الله، والتواضع ابتغاء مرضاته، أجل وأعظم بكثير من المجد الذي تصبو إليه نفسه، ويحاول السعي إليه عن طريق الاستكبار الذي لا يوصل بحالٍ من الأحوال إلى المجد الذي يريده، ولكنه متى سار فيه أشواطًا انهار به، فوجد نفسه في مواقع الضعة والمهانة والذلة، ورأى الناس يعاقبونه على كبره بالاحتقار والاستصغار.