موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(تمهيد)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(تمهيد)
199 0

الوصف

                                                                 النفاق

                                                                  تمهيد
                            الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 4- النفاق >>

4- النفاق

النفاق انحراف خلقي خطير في حياة الفرد، وفي حياة الأمم، وتبدو خطورته الكبيرة حينما نلاحظ أنه يدخل في الدين أعظم القيم في الحياة، وحينما نلاحظ أيضًا آثاره على الحركات الإصلاحية الخيرة، إذ يقوم بعمليات الهدم الشنيع من الداخل، وصاحبه آمن مستأمن لا تراقبه الأعين، ولا تحسب حسابًا لمكره ومكايده.

وأبرز ما في النفاق أنه مظهر من مظاهر خلق الكذب، على أننا لدى التحليل نلاحظ أنه سلوك مركب يرجع إلى عناصر خلقية متعددة، فإذا جمعنا الجبن، والطمع بالمنافع الدنيوية، وجحود الحق، وخلق الكذب، تولد عنها في سلوك الفرد ما نسميه بالنفاق، ثم يظهر نظير ذلك في سلوك الجماعة حينما تكون فيها هذه العناصر الخلقية المنحرفة عن السبيل الأقوم.

فلولا أن يكون المنافق جبانًا، أو صاحب طمع شديد بالمنافع الدنيوية التي يترقبها إذا هو تظاهر بالإسلام، لما سلك مسلك النفاق، ولما كان له وجهان، وجه مع الكافرين، ووجه يخادع به المؤمنين، ولوجد الجرأة الكافية على أن يعلن جحوده للمؤمنين، ويقف صراحة في صف الكافرين، لكن جبنه الشديد يمنعه من ذلك، فهو يخشى أن يتظاهر بموقفه العدائي للمسلمين، كما أن طمعه الشديد بمشاركته المسلمين في الغنائم التي يظفرون بها من أعدائهم يجعله يتظاهر بأنه منهم. فالجبن والطمع مع خلق الكذب من العوامل الرئيسية التي يتولد عنها النفاق.

ولولا أن يكون المنافق جحودًا للحق كنودًا؛ لردعه إيمانه وحبه للحق عن سلوك مسلك النفاق في الدين. فالذي يحب الحق، ولا يحلو له الجحود، ولا يطيب له الكنود، لا ينافق وإن كان جبانًا أو شديد الطمع؛ لأنه سيجد فيما يؤمن به من حق مخاوف تردعه عن الباطل، ومطامع تجعله يلتزم سبيل الحق والخير، ويمتص سبيل الحق والخير الديني جبنه وطمعه، فلا يبقى لديه منهما ما ينزع به إلى النفاق.

ولولا أن يكون المنافق كذابًا –أي: لولا أن يكون خلق الكذب أصيلًا في نفسه- لما طاوعته نفسه أن يلتزم سبيل النفاق؛ لأن النفاق عملية كذب دائم في القول والعمل، وهذا لا يستطيعه ولا يحسنه إلا كذاب أشر، ممتهن للكذب جريء عليه وقحٌ في التزامه، قادر على أن يبهت الناس في وجوههم، وذلك بأن يفتري عليهم الأقاويل، ويواجههم بها، ويحلف على ذلك الأيمان المغلظة دون أن يتلجلج أو يتلعثم أو يتلكأ، وعلى مقدار مهارة المنافق في الكذب يكون تعمقه في درك النفاق.

فالنفاق خلق مركب، وليس خلقًا بسيطًا، إنه طبخة شيطانية معقدة.

وأخف دركات النفاق أن يتخذ المنافق وجهين، يستعلن بأحدهما، فيرضي بظاهره جماعة المسلمين، كاتمًا عنهم الوجه الآخر، ويستخفي بالآخر ويتآمر به مع الكافرين الصرحاء، مخبرًا لهم في السر أنه معهم، وأنه يريد أن يتظاهر بالانضمام إلى المسلمين ليخدم بذلك مصالح أعدائهم، دون أن يحذر المسلمون مكايده التي يدبرها ضدهم وهو ضمن صفوفهم. وهذا الوجه الذي يظهر به لإخوانه الكافرين الشياطين وجهٌ يسرهم؛ لأنهم يعتبرونه جاسوسًا لهم في صفوف المسلمين، وما يظهر به من الإسلام إنما هو مخادعة للمسلمين، بغية خدمة مصالح أعدائهم.

وأشد من ذلك المنافق الذي يخادع المؤمنين ويخادع أعداءهم معًا، وهو لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، وهذا مزدوج النفاق، ويمكن أن نمثل له بيهودي تظاهر بالإسلام ليخادع المسلمين، ثم يخلو بالمشركين فيسر لهم بأنه سيخدم مصالحهم داخل صفوف المسلمين، مقابل منافع يرجوها من المشركين، ثم إذا خلا بإخوانه الشياطين من اليهود كشف لهم وجهه الحقيقي وقال لهم: إني منكم، وإني أخادع من أجلكم المسلمين والمشركين الوثنيين بوجهين مختلفين.

وقد يوجد منافق مثلث النفاق أو مربعه أو أكثر من ذلك.

ومن الجواسيس الدوليين من يفعلون أكثر من ذلك، وإن خطر هؤلاء المنافقين الماكرين أشد من خطر جيوش كبيرة محاربة؛ لأنها تحارب من مواقع الحذر، أما المنافقون فيحاربون من مواقع الأمن، وهي المواقع التي لا رقابة فيها وليس فيها تحصينات تدفع مكايد العدو المخالط المداخل.

إنه كاللص المجهول المساكن في الدار الذي تصعب مراقبته، ولذلك كانت عقوبته أشد من عقوبة الكافر المستعلن بعداوته، ولذلك كانت منزلته في الدرك الأسفل من النار.