موسوعةالأخلاق الإسلامية-العدل(شبهة المساواة العامة في مفهوم العدل)
الوصف
العدل
شبهة المساواة العامة في مفهوم العدل
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 5- العدل >>
شبهة المساواة العامة في مفهوم العدل:
يمكر بعض الماكرين، ويتسرع بعض المنخدعين، فينادون بالمساواة العامة بين الناس جميعًا في كل أمور الحياة، ويرون أن ذلك من العدل.
وهذا خطأ فادح، يؤدي إلى تحقيق أنواع وصور شنيعة من الظلم، تحت شعار العدل، وذلك لأن حقوق الناس في الأصل غير متساوية، فكيف تكون المساواة بينهم من العدل، مع تفاوتهم في الحقوق.
كيف يكون من العدل مساواة الناقص للكامل؟ كيف يكون من العدل التسوية بين المحسن والمسيء؟ كيف يكون من العدل التسوية بين المسلم والمجرم؟ كيف يكون من العدل التسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
إن التسوية بين هذه الأمور المتفاوتة في أصلها مجانبة للعدل، وظلم للحق لا ترتضيه العقول.
إن خديعة المساواة يلزم منها أن يعطي المدرس طلابه تقديرًا متساويًا، مهما كان وضع كل منهم، وعندئذٍ ينال المقصر الكسول مثل الدرجة التي ينالها السابق المجد، وهذا ظلم لحق العلم، وظلم لحق السابق المجد.
إن ميزان العدل يزن قيم الأشياء وقيم الأعمال بالاستناد إلى قواعد الحق، فمتى تساوت كفتا الميزان استقامت إشارة العدل، والذي يريد أن يسوي بين الأمور رغم اختلاف قيمتها الذاتية، مثله كمثل من يسوي في القيمة بين الذهب والحجر، على أساس تكافئهما في الثقل المادي، فيضع ذهبًا بإحدى كفتي الميزان، ويضع في الكفة الأخرى مثل ثقله حجرًا عاديًّا.
إن العدل عمل شديد الدقة، يحتاج إلى بصر نافذ، ومهارة فائقة، وخبرة بالأشياء والأعمال، ومعرفة بقيمها الذاتية، وإلا اختل ميزان العدل وجار، وجنح صاحبه إلى ظلم كبير شنيع.
وقد يكون من السهل معرفة العدل بين خصمين، لأحدهما دين على الآخر، والمدين غير منكر، فيحكم القاضي بالعدل حين يكلف المدين أن يؤدي ما عليه لدائنه، ومن السهل أيضًا أن نعرف بوجه عام أن من العدل إعطاء كل ذي حق حقه أو ما يعادل حقه ويساويه، ولكن تتعقد المشكلة حين تعرض الحوادث والقضايا، وتخفى جوانب كثيرة منها، ويكون على القاضي فيها أن يحكم بالعدل.
وكثيرًا ما يصعب على واضعي الأنظمة والقوانين استبانة وجه العدل في الأمور التي يريدون أن يضعوا لها أنظمة وقوانين، وكم يضعون أحكامًا عامة ثم يلاحظون لدى التطبيق أنها أحكام جائرة ظالمة، وأن العدل يقضي بتعديلها.
ولا بد أن نلاحظ في هذا المقام، أن الشريعة الإسلامية قد وضعت لنا في أحكامها المقاييس والصنجات، التي نقيس بها ونزن قيم الأشياء والأعمال بالاستناد إلى قواعد الحق، فإذا قسنا أو وزنا بها وزنًا صحيحًا عرفنا بتوفيق الله وتسديده وجه العدل، ومن أجل ذلك ذخرت الشريعة الإسلامية بأحكام العدل التفصيلية حتى نحسن القياس والوزن.
ومن أجل ذلك أيضًا نبهت نصوص الشريعة الإسلامية على ارتباط ميزان العدل بمقاييس الحق، فمنها قول الله تعالى في سورة (الشورى 42):
(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)) .
فمن هذا النص نلاحظ أن ميزان العدل مرتبط ارتباطًا أساسيًّا بمقاييس الحق وموازينه، وعلى مقاييس الحق وموازينه تتم عملية الوزن الصحيح الذي يظهر فيه وجه العدل.
ومثل الشريعة الإسلامية في هذا شرائع الله السابقة التي أنزلها على رسله، قال الله تعالى في سورة (الحديد 57):
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)) .
فرسل الله جميعًا جاؤوا بالبينات، وأنزل الله معهم الكتاب للهداية، وأنزل معهم ميزان العدل، ليقوم الناس بالقسط.
ولما كانت الهداية وإقامة العدل بحاجة إلى قوة مادية تكبح عدوان أعدائهما ذكر الله الحديد، وأعطاه صفة أنه منزل من لدنه؛ لأن الحديد هو أداة القوة المادية وسلاحها المؤدب والمحارب، فقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) .
وامتن الله بأن في الحديد منافع أخرى للناس، إضافة إلى منافعه في إقامة العدل بين الناس، وفي الجهاد في سبيل الله لهداية الخلق إلى الحق.
وهكذا دلنا هذا النص على أن الشرائع الربانية كلها قد جاء فيها التوجيه لاستخدام القوة المادية، لإقامة العدل، والجهاد في سبيل الله، بغية ردع الظالمين الآثمين المعتدين، الذين يظلمون الناس ويقاومون الحق، ويحمون أنفسهم بسلطان القوة المادية.