موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصدق(هـ - موقف الإسلام من الصدق والكذب)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصدق(هـ - موقف الإسلام من الصدق والكذب)
210 0

الوصف

                                                                 الصدق

                                                     هـ - موقف الإسلام من الصدق والكذب
                                الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 3- الصدق >>

هـ - موقف الإسلام من الصدق والكذب:

ولما كان الصدق ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني، وفضيلة من فضائل السلوك ذات النفع الحضاري العظيم.

ولما كان الكذب عنصر إفساد كبير للمجتمعات الإنسانية، وسبب هدم لأبنيتها الحضارية، وتقطيع لروابطها وصلاتها، ورذيلة من رذائل السلوك ذات الضرر البالغ؛ أمر الإسلام بالصدق، ونهى عن الكذب، وأعلن أن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع الإسلامي، ووضع قواعد تربية هذا المجتمع على الصدق، واتخذ كل الوسائل الكفيلة بغرس هذا الخلق العظيم في نفوس أفراده جميعًا، صغاره وكباره، ورجاله ونسائه.

وفيما يلي بيان لطائفة من النصوص الإسلامية:

1- روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا.

وفي رواية أخرى:

عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا.

فدل هذا الحديث على أن الصدق يهدي إلى البر، والبر كلمة جامعة تدل على كل وجوه الخير، ومختلف الأعمال الصالحات، مما هو زائد على فعل الواجبات وترك المحرمات، الأمور التي تقتضيها مرتبة التقوى.

ونتساءل كيف يهدي الصدق إلى مختلف وجوه البر؟ وبالتأمل والتحليل نلاحظ ما يلي:

إذا كان الإنسان صدوقًا أي: كان خلق الصدق أصيلًا في نفسه، فما هو موقفه السلوكي إذا عرف الحق وسئل عنه؟

إنه لا بد أن يكون موقفه تجاهه الإعلان عنه بصدق، أن يقول: هو حق.

فإذا سئل عن أركان الإيمان بعد أن يعلم أنها حق بالأدلة التي تثبت ذلك؟

إنه لا بد أن يعلن اعترافه بأنها حق لأنه صادق لا يطاوعه خلقه أن يكذب، مهما كانت أهواؤه جانحة إلى إعلان الجحود والإنكار.

وبهذا يتبين لنا أن الصدق يهدي إلى الإيمان، والإيمان هو القاعدة الأساسية للتقوى وقد هدى إليه خلق الصدق.

ومن كان صدوقًا خلقه الصدق فإنه لا يمكن أن يكون منافقًا؛ لأن الكذب هو العماد الأول للنفاق، والصادق إما أن يؤمن حقًّا، ويعلن إسلامه بصدق، وإما أن يتوقف حتى تتبين له الحقيقة، فخلق الصدق يمنعه من أن يظهر الإيمان كذبًا، ويبطن الكفر، كما يمنعه من جحود الحق بعد معرفته.

فخلق الصدق يبعد صاحبه عن درك عميق فيه الهلاك والشقاء، ويدنيه إلى صراط السعادة، صراط الجنة، إذ يهدي صاحبه إلى بر الإيمان ويبعده عن فجور الكفر والنفاق.

وبهذا اتضح لنا التسلسل المنطقي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.

ولننتقل إلى مثالٍ توضيحي آخر فنقول: إذا كان الإنسان متحليًّا بخلق الصدق، فهل يطاوعه خلقه أن يعطي عهدًا وهو كاذب فيه، أو يعد وعدًا وهو كاذب فيه؟

إنه لا يفعل ذلك إلا إذا خالف خلقه، فما دام متحليًّا بخلق الصدق فلا بد أن يكون صادق العهد صادق الوعد، والوفاء بالعهد والصدق في الوعد من وجوه البر العظيمة التي توصل إلى أعمال البر ثم إلى رضوان الله والجنة.

وحين يعلن المسلم الصادق شهادة الإسلام، فإنه يعبر عن دخوله بإرادته في جماعة المسلمين، ويعلن عن قبوله ورضاه بأحكام الإسلام، وهذا الإعلان بمثابة عهد مع الله ومع المسلمين بأن يلتزم في حياته معنى شهادة التوحيد، فلا يجعل مع الله شريكًا في ربوبيته، ولا في ألوهيته، وبأن يلتزم في حياته معنى الشهادة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يرفض شيئًا مما جاء به من أمور الدين، وهذا الإعلان هو أيضًا بمثابة وعد بالتزام الأحكام الإسلامية في حياته العملية.

فمن أعلن إسلامه، فقد أعطى عهدًا بأن يلتزم مفاهيم الإسلام في حياته الفكرية الاعتقادية، وأعطى وعدًا بأن يلتزم تعاليم الإسلام في حياته العملية، فإذا كان خلق الصدق خلقًا أصيلًا في نفسه، لم يطاوعه خلقه أن يكون واقع حاله على خلاف إعلانه، وبذلك يهديه خلق الصدق إلى مختلف وجوه البر، والبر يأخذ بيد صاحبه إلى رضوان الله وجنته.

وبهذا يتضح لنا أيضًا التسلسل المنطقي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.

ودل هذا الحديث أيضًا على أن خلق الصدق في حياة الإنسان قابل للاكتساب، وقابل للتنمية والترسيخ، عن طريق التدريب العملي المقترن بالإرادة الجازمة، فمن مظاهر الإرادة الجازمة تحري الصدق في الأقوال كلها، وفي مختلف وسائل التعبير العملية. والذي يتحرى الصدق لا يسمح لنفسه بأن يلقي كلامًا جزافًا دون ترو ولا بصيرة، ولا يسمح لنفسه بأن يتبع ما ليس له به علم، فيحكم بالظنون التي ليس لها ما يدعمها ويؤيدها من الأدلة الكافية للإثبات أو للنفي، ولا يسمح لنفسه بأن يرائي أو ينافق في أعماله لأنه يحرص على الصدق ويتحرى بإرادته الجازمة الصدق في أقواله وأعماله، وعندئذ يكون صديقًا، وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث:

وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا

وجاء في رواية أخرى:

ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا.

ودل هذا الحديث على أن الكذب يهدي إلى الفجور وأن الفجور يهدي إلى النار.

والفجور في اللغة هو في أصله الميل والانحراف عن الحق، وفيه معنى الإقبال الشديد بتدفق إلى ارتكاب القبائح والمعاصي والآثام. فالفاجر هو المائل المنحرف عن طريق الهداية، المنبعث بتدفق وقح ذميم إلى ارتكاب القبائح والمعاصي والآثام، ومن أجل ذلك يطلق الفجور على هذا الانبعاث المتدفق الوقح.

إذن فالبر والفجور ضدان متقابلان، أما البر فهو لفظ جامع يراد به مختلف وجوه الخير وأنواع الطاعات الزائدة على فعل الواجبات وترك المحرمات، وأما الفجور فهو لفظ جامع أيضًا، يراد به الانبعاث في مختلف أعمال الشر وأنواع المعاصي والآثام، والتدفق إلى ارتكاب ما لا يحل للإنسان ارتكابه من عمل.

ونتساءل: كيف يهدي الكذب إلى الفجور؟ وبالتأمل والتحليل نلاحظ ما يلي:

من كان الكذب خلقًا أصيلًا فيه هان عليه أن ينكر الحق ويدعي خلافه، فإذا عرف أن أركان الإيمان حق بعد أن أقيمت له الأدلة البينة، لم يجد حرجًا في نفسه أن ينكرها، ويدعي خلافها كذبًا وبهتانًا، استجابة لأهواء نفسه، وتلبية لشهواته. ولم يجد حرجًا في نفسه أيضًا أن يعلن أن معتقداته الباطلة التي يظهر له بطلانها هي معتقدات صحيحة مطابقة للحقيقة والواقع، وهو يعلم أنه يكذب على الحقيقة والواقع، ويحاول أن يقنع الآخرين بأكاذيبه التي يفتريها على الحقيقة والواقع، كل هذا يفعله استجابة لأهواء نفسه، وتلبية لشهواتها.

ومعلوم أن الكفر بأركان الإيمان من أفجر الفجور، وقد ساعد عليه وهدى إليه خلق الكذب، ولو أنه كان صادقًا –أي: كان خلق الصدق أصيلًا في نفسه- لم يطاوعه خلقه على جحود الحق الذي ظهر له، لكنه كان كذابًا فوجد في نفسه مفرًا من وجه الحق بافتراء الكذب.

والمنافق يستطيع أن يتظاهر بالإسلام زورًا وكذبًا، ليحميه النفاق من نقمة المسلمين في الدنيا، أو ليظفر بمطامع مادية يشارك فيها المسلمين الصادقين، وقد ساعده على ذلك خلق الكذب، إذ جعله يركب في سلوكه أفجر الفجور، وهو النفاق، ولما كان النفاق أفجر الفجور كان المنافق في الدرك الأسفل من النار.

وللمنافق علامات –أساس معظمها الكذب- إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا أؤتمن خان.

ولو كان الصدق خلقًا أصيلًا في نفسه لما طاوعه على ركوب هذه الموبقات المهلكات من قبائح السلوك.

ودل هذا الحديث أيضًا على أن خلق الكذب في حياة الإنسان قابل للاكتساب، وقابل للتنمية والترسيخ، عن طريق التدريب العملي المقترن بالإرادة الجازمة، فقد جاء فيه:

وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا

وتحري ممارسة الكذب ظاهرة من ظواهر الإرادة الجازمة.

وبتكرار ممارسة الكذب تكتسب العادة، ثم تتحول العادة إلى خلق راسخ، وعندئذ يكتب عند الله كذابًا، ومن غدا كذابًا هانت لديه معظم أعمال الفجور، فدفع به الكذب إلى النار.

2- وقال الله تعالى في سورة (النحل 16):

(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)) .

وروى الإمام مالك في الموطأ، عن صفوان بن سليم، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال:

نعم

فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال:

نعم

، فقيل: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال:

لا.

فدلت الآية على حصر افتراء الكذب بالذين لا يؤمنون، أما الكذبات العارضات في حياة الإنسان، التي لا تكون افتراء مدبرًا مقصودًا، والتي لا تكون عن خلق أصيل ثابت، فربما تقع من المؤمن.

وكذلك دل الحديث على أن المؤمن لا يكون كذابًا، أي: لا يصل إلى مستوى في تحري الكذب يدمغ فيه بأنه كذاب، خلقه الكذب، أما الكذبات العارضات فليس في الحديث ما يدل على أنها لا تكون من المؤمن، وذلك لأن "كذاب" صيغة مبالغة تدل على تمكن خلق الكذب في نفسه.

فافتراء الكذب وافتعاله عن إصرار وتعمد إنما يفعله الكذابون الذين لا يؤمنون.

3- وروى الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا أؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم.

فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصدق أحد عناصر ست من تحلى بها دخل الجنة، وفي هذا