موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصدق(د - حاجة المجتمع الإنساني إلى سيادة خلق الصدق)
الوصف
الصدق
د - حاجة المجتمع الإنساني إلى سيادة خلق الصدق
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 3- الصدق >>
د - حاجة المجتمع الإنساني إلى سيادة خلق الصدق، والمضار الكثيرة التي يجلبها خلق الكذب:
تبدو لنا حاجة المجتمع الإنساني إلى خلق الصدق، حينما نلاحظ أن شطرًا كبيرًا من العلاقات الاجتماعية، والمعاملات الإنسانية، تعتمد على صدق الكلمة، فإذا لم تكن الكلمة معبرة تعبيرًا صادقًا عما في نفس قائلها، لم نجد وسيلة أخرى كافية نعرف فيها إرادات الناس، ونعرف فيها حاجاتهم، ونعرف فيها حقيقة أخبارهم.
لولا الثقة بصدق الكلمة لتفككت معظم الروابط الاجتماعية بين الناس، ويكفي أن نتصور مجتمعًا قائمًا على الكذب، لندرك مبلغ تفككه، وانعدام صور التعاون بين أفراده.
كيف يكون لمجتمعٍ ما كيانٌ متماسك وأفراده لا يتعاملون فيما بينهم بالصدق؟ وكيف يكون لمثل هذا المجتمع ثروة من ثقافة أو تاريخ أو حضارة؟
كيف يوثق بنقل المعارف والعلوم إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني؟
كيف يوثق بنقل الأخبار والتواريخ إذا لم يكن الصدق أحد الأسس الحضارية التي يقوم عليها بناء المجتمع؟
كيف يوثق بالوعود والعهود ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟
كيف يوثق بالدعاوى والشهادات ودلائل الإثبات القولية ما لم يكن الصدق أحد أسس التعامل بين الناس؟
ما هو مصير مجتمع قائم على الكذب؟ أليس مصيره الانحلال والتفكك، ثم التخلف الحضاري الشنيع، ثم الخراب والدمار؟ أليس الجهل المخزي أحد سمات هذا المجتمع المنحل؟
مثلٌ في قصة متخيلة:
كذاب ساقته أقداره إلى مدينة الكذابين، دون أن يعلم شيئًا عن حقيقتها ولا عن حقيقة من فيها، وحين وصل إليها وجد نفسه شديد الجوع، منهك القوى، قلق النفس، مضطرب الفؤاد، يريد طعامًا ومنامًا وطمأنينة.
فأخذ يبحث عن مطعم يأكل فيه، وعن فندقٍ يأوي إليه، وقال في نفسه: سؤال أهل المدينة أقرب طريق يوصلني إلى مطعم وفندق، فرأى رجلًا مهيبًا وسيمًا، فقال له: يا سيدي هل تعرف مطعمًا نظيفًا جيد الطعام، ترشدني إليه فإني غريب.
فقال له الرجل: امض في هذا الشارع، فإنك ستجد بعد نحو نصف ميل منعطفًا على اليمين، فتابع المسير في هذا المنعطف، فإذا سرت نصف ميل آخر وجدت المطعم الذي يسرك.
قال: فما اسم هذا المطعم؟
قال: اسمه مطعم الليل الضاحي.
فسار الرجل وفق البيان الذي تلقاه، وأخذ يبحث عن مطعم الليل الضاحي، فلما قطع المسافة الأولى لم يجد منعطفًا على اليمين، إلا أنه وجد منعطفًا على الشمال، فمضى لعله يجد منعطفًا على اليمين، إلا أنه لم يجد وقد كاد يصل إلى آخر المدينة، فرجع أدراجه وقال في نفسه: لعل الرجل قد أخطأ، فأخبرني أن المنعطف على اليمين، وهو يريد أن يقول لي: إن المنعطف على الشمال.
فرجع وسار في المنعطف الذي على الشمال حتى بلغ آخره، ولم يجد مطعم الليل الضاحي، وعندئذٍ استوقف رجلًا عجوزًا فقال له: يا سيدي أنا رجل غريب، وإنني أبحث عن مطعم وفندق، وقد سألت في طريقي رجلًا مهيبًا وسيمًا، فدلني على مطعم الليل الضاحي في هذا الشارع، وأخبرني أنه مطعم نظيف جيد الطعام، وأنا أبحث عنه منذ ساعة، فلم أعثر عليه، فضحك العجوز ضحكة هرمة مضرسة خبيرة، وقال له: إن مطعم الليل الضاحي في أقصى المدينة الشرقي، إلا أنك إذا وصلت إليه وجدت مكتوبًا على عتبة بابه: مركز إطفاء المدينة. فسأله عن مطعم آخر، فقال له: ليس في هذه الناحية مطعم ولا فندق، وكل مطاعم المدينة وفنادقها في أقصاها الشرقي، فاركب في هذه المركبة العامة، وانزل في محطة "نفق الأنفاق" فهناك أقصى المدينة الشرقي، وهناك تجد طلبك.
فاستجاب الرجل سريعًا إلى نصيحة الرجل العجوز، فركب المركبة قاصدًا محطة "نفق الأنفاق" ثم أخذ يسأل في المركبة وهي سائرة عن المحطة فيضحك الناس من سؤاله، فقال: أليست هذه المركبة سائرة إلى أقصى المدينة الشرقي، فاستغرقوا في الضحك، وهم يقولون: بل هي سائرة إلى أقصى المدينة الغربي.
فنادى: يا أيها الناس دلوني على مطعم وفندق فإني غريب جائع منهك القوى، فجعلوا يكذبون عليه، وكل واحد منهم يدله دلالة مخالفة لدلالة الآخرين. وحار في أمره، وضاق ذرعًا بنفسه وبكل من حوله، وبكل شيء حوله، ثم رمى بنفسه من المركبة، وانطلق هائمًا على وجهه، وخرج من المدينة وهو يقول: لعن الله الكذب والكذابين، إن مجتمعًا يسود فيه الكذب مجتمع عذاب وشقاء.
وأعلن توبته من الكذب، وأدرك ضرورة الصدق للمجتمعات الإنسانية، وكان دخوله إلى مدينة الكذابين سبب توبته ووسيلة تربوية له.