موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(بر الوالدين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(بر الوالدين)
271 0

الوصف

                                                    الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها

                                                                  بر الوالدين
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>

بر الوالدين:

إن عطف الوالدين على الولد من أبرز صور الرحمة، وهي تفرض على الولد أن يقابل رحمة والديه له بأن يرحمهما، فيخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ويدعو لهما بالرحمة الشاملة للمغفرة والعفو ودخول الجنة.

إن رحمة الوالدين بأولادهما رحمة غيرية بحتة، فهي عطاءٌ لا يلاحظ فيه ترقب العوض، وفطرة فطر الله خلقه عليها، ولذلك كان بر الوالدين من أعظم واجبات الصلة الاجتماعية، وكان عقوق الوالدين مقاربًا لدركة الشرك بالله، وكان الأمر بالإحسان للوالدين في بعض النصوص الإسلامية عقب الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به.

الإحسان للوالدين في القرآن:

1- قال الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36))

ففي هذا النص نلاحظ أن الله تبارك وتعالى يأمر بعبادته، وينهى عن الإشراك به، ويتبع ذلك بالأمر بالإحسان للوالدين، ثم يأمر بوجوه الإحسان لأصناف من الناس تستدعي أحوالهم الاجتماعية، أو قراباتهم، أو قرب الصلة بهم في المسكن أو في الصحبة، زيادة الإحسان إليهم والشفقة عليهم والرحمة بهم.

إن هذه الآية الكريمة تعتبر من أمهات الآيات التي توجه لواجبات الصلات الاجتماعية، التي تعتبر الرحمة من أعظم دوافعها في أعماق النفس الإنسانية.

2- وقال الله تعالى في سورة (العنكبوت 29):

(وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8))

ففي هذه الآية يأمر الله تبارك وتعالى بالإحسان إلى الوالدين، ولكنه لا يسمح بطاعتهما في معصية الله، إذ طاعة الله ورسوله تقع في الدرجة الأولى، ثم يأتي من بعدها الإحسان إلى الوالدين، على أن طاعة الوالدين هي أيضًا من طاعة الله، ما لم يأمرا بالكفر بالله أو بالشرك به أو بمعصيته في أوامره ونواهيه.

3- وقال الله تعالى في سورة (لقمان 31):

(وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15))

في هذا النص يوصي الله الإنسان بالإحسان لوالديه، مبينًا على وجه الخصوص مبلغ متاعب الأم بولدها، إشعارًا بمبلغ استحقاقها للإحسان والرعاية، شكرًا لها على ما قدمت من عطاء دفعت إليه دوافع الرحمة.

وفي قوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) صورة رائعة ودقيقة جدًّا لمبلغ المتاعب التي تتحملها الأم في حمل جنينها، والتي تستوجب على الولد أن يشكر لها.

وفي قوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) إشارة إلى مدة الرضاع التي تكون فيها متاعب إرضاع الطفل وتربيته متاعب جمة، وهي في الغالب تتحملها الأم، وقد يشارك فيها الأب، وهذا يستوجب الشكر.

ولما كانت العناية الربانية هي المهيمنة على الإنسان منذ نشأته، والمسايرة له مدى وجوده، كان من حقه على عباده أن يشكروه.

ولذلك قال الله تعالى في النص: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)

وأكد الله في هذا النص ما جاء في آية (العنكبوت) السابقة مع بعض زيادات في الدلالات.

ففي آية (العنكبوت): (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وهذا يتضمن مجرد الوصية بالإحسان للوالدين.

أما ما جاء في (لقمان) ففيه الأمر بالشكر لهما، بعد التنبيه على متاعبهما، وجعل هذا الأمر مقرونًا بالشكر لله: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ففي هذه الآية تكليف زائد على مجرد الوصية، وبيان لموجب هذا التكليف.

وفي آية (العنكبوت): (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا)

أما في (لقمان) فالنص كما يلي: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)

والفرق بينهما أن آية العنكبوت تضمنت أن مجاهدة الوالدين في الدعوة إلى الشرك بالله مجاهدة من مستوى السعي غير الملزم، ولذلك كان التعبير: (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ) أي: سعيًا لأجل أن تشرك. بخلاف آية لقمان فقد تضمنت أن مجاهدتهما مجاهدة من مستوى الإلزام والإيجاب، ولذلك جاءت التعدية في التعبير بحرف (على): (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ) أي: حرصًا على أن تشرك، وهنا كان لا بد من تحديد موقف الولد بوضوح بعد نهيه عن طاعتهما في هذا الأمر، وهذا الموقف يتلخص بعنصرين:

الأول:
مصاحبتهما في الدنيا بالمعروف (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)

الثاني:
اتباع سبيل من أناب إلى الله، وهو سبيل المؤمنين (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ)

ومن كل النصوص نستخلص أن الإحسان للوالدين يجب أن لا يكون على حساب حق الله على عباده. إن مبدأ الإحسان للوالدين مبدأ ثابت ولو كان الوالدان كافرين، ولكن هذا المبدأ لا يصح بحالٍ من الأحوال أن يطغى على مبدأ وجوب الإيمان بالله والتزام طاعته واتباع شريعته لعباده.

ومن واجب الولد أن يصاحب والديه الكافرين في الدنيا مصاحبة بالمعروف، أي: بما هو معروف بين الناس من أصول الإحسان في المصاحبة، وحين يطلبان منه أن يعصي الله في شيء لم يكن لهما عليه حق الطاعة، ولم يجز له أن يطيعهما في ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق مهما كان شأنه في معصية الخالق جل وعلا، إن حق الله على عباده أعظم وأجل من أي حق.

4- وقال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24))

النهر: هو النهي الشديد مع الزجر.

في هذا النص يأتي النهي عن عبادة غير الله، والأمر بالإحسان للوالدين مقترنين، وفي هذا إشارة إلى الأهمية البالغة لواجب بر الوالدين والإحسان إليهما، إذ توحيد الله من أهم مطالب الشريعة وأعظمها، فإذا جاء الأمر ببر الوالدين مقرونًا به دل ذلك على مبلغ اهتمام الإسلام بهذا الواجب.

وفي قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) قوة في الإلزام بهذين الواجبين، إذ جاء التعبير عن هذا التكليف بعبارة (قضى) ومعلوم أن القضاء إذا كان في مجال التكوين كان لا بد من وقوعه حتمًا، فلما جاء في مجال التكليف دل على شدة إلزام المكلفين به، إلى أقصى حد.

وفي هذا النص اهتمام بحالة الأبوين حينما يبلغان مبلغ الكبر والعجز، إذ يؤكد فريضة الإحسان إليهما في هذه الحالة، ومن الإحسان إليهما تكريم مقامهما، وعدم التضجر من أفعالهما مهما كانت مثيرة للتضجر، وعدم مواجهتهما بما يؤذيهما من القول، حتى ولا بكلمة (أفّ) علمًا بأن الإنسان متى كبرت سنه وبلغ مبلغ العجز كثرت مطالبه، وضاق صدره، وكثرت مداخلاته في كل صغيرة وكبيرة، ومنهم من يرد إلى أرذل العمر، ومع كل ذلك فالولد مطالب شرعًا بأن يقول لكل من والديه مهما كانت حالهما قولًا كريمًا، وبأن لا يواجههما بأي قولٍ يؤذيهما، وأدنى ذلك كلمة (أفّ) التي تشعر بالتضجر.

ويكاد الإنسان لا يفي والديه حقهما عليه مهما أحسن إليهما؛ لأنهما كانا يحسنان إليه حينما كان صغيرًا وهما يتمنيان له كل خير، ويخشيان عليه من كل سوء، ويسألان الله له السلامة وطول العمر، ويهون عليهما من أجله كل بذلٍ مهما عظم، ويسهران على راحته دون أن يشعرا بأي تضجر من مطالبه، ويحزنان عليه إذا آلمه أي شيء، أما الولد فإذا قام بما يجب عليه من الإحسان لوالديه فإن مشاعره النفسية نحوهما لا تصل إلى مثل مشاعر أنفسهما التي كانت نحوه، ولا تصل إلى مثل مشاعره هو نحو أولاده إلا في حالات نادرة جدًّا.

وفي قوله تعالى: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) بتقديم النهي عن الأمر الأخف على النهي عن الأمر الأشد وهو النهر، وكان الظاهر يقتضي العكس بتقديم النهي عن نهرهما على مواجهتهما بكلمة أفّ، في هذا جريٌ على سنن العرب في كلامهم، إذ يقدمون الأقل على الأكثر، والأخف على الأشد، والمفضول على الأفضل، فهم يقولون: لم يترك قليلًا ولا كثيرًا، مع أن من لم يترك القليل لم يترك الكثير من باب أولى، وهذا ينسجم مع طبيعة العربي الذي يتدرج من الأدنى إلى تصوره فالأدنى، فالبعيد فالأبعد.

وفي قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) رائعة بيانية عجيبة، فالله تبارك وتعالى يأمر الولد بأن يخضع لوالديه، ويلين لهما لينًا ناشئًا عن خلق الرحمة المتغلغل في قلبه، ويتذلل لهما تذلل الراحم لا تذلل الضعيف المهين، فيشبه الرحمة بالطائر، ويجعل لهذا الطائر