موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرجوع إلى الحق(أقسام عصاة المؤمنين بالنسبة إلى التوبة)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرجوع إلى الحق(أقسام عصاة المؤمنين بالنسبة إلى التوبة)
243 0

الوصف

                                                              الرجوع إلى الحق

                                                      أقسام عصاة المؤمنين بالنسبة إلى التوبة
                            الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 7- الرجوع إلى الحق >>

أقسام عصاة المؤمنين بالنسبة إلى التوبة:

يقسم القرآن العصاة من المؤمنين إلى ثلاثة أقسام:

* القسم الأول:
عصاة مؤمنين يفعلون السوء بجهالة من الجهالات النفسية، التي تضعف معها إراداتهم، ثم يتوبون من قريب ويصلحون نفوسهم وسلوكهم، وهؤلاء قد وعدهم الله وعدًا قاطعًا بأن يتوب عليهم، وجعل ذلك قضاء قضى به سبحانه وتعالى على نفسه إذ كتب على نفسه الرحمة، وقد دل على ذلك قول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)) .

فقد جعل الله في هذه الآية التوبة على هذا القسم من العصاة وعدًا عليه حقًّا، وأبان فيها المراد من قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ) في آية (الأنعام 6) المكية بأن هذه البعدية ينبغي أن تكون من قريب إذ جاء فيها خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم:

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54)) .

فهذه الآية توضح أن الله قد كتب على نفسه الرحمة فألزم بها نفسه، وفسرت الآية هذه الرحمة التي كتبها الله على نفسه بقبول توبة من عمل من المؤمنين سوءًا بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح نفسه وسلوكه.

وحين يقبل الله التوبة من التائبين الصادقين في توبتهم فيتوب عليهم، هل يكفر عنهم سيئاتهم؟

وذلك لأن قبول التوبة أمر، وتكفير السيئات أمرٌ آخر، فالتوبة عودة إلى ديوان الطائعين، وقبولها قبول العودة إلى هذا الديوان، أما تكفير السيئات فيعني ستر حالة الذنب نهائيًّا وعدم المحاسبة عليها.

ونجيب على هذا السؤال بما يلي:

1- أما التوبة من الكفر بالإسلام فهي تجب ما قبلها فضلًا من الله وكرمًا، ففي الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم:

الإسلام يجب ما قبله.

2- وأما توبة المؤمنين من ذنوبهم وسيئاتهم فإن صاحبها استغفار أو كانت من اللمم والصغائر أو تبعها إصلاح واستقامة غفرها الله، للنصوص الواردة في ذلك، وإن لم يصاحبها استغفار وكانت من الكبائر ولم يتبعها إصلاح واستقامة فقد أعطى الله المؤمنين رجاء بأن يكفرها عنهم إذا تابوا إلى الله توبة نصوحًا، فقال تعالى في سورة (التحريم 66):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)) .

والترجية بـ (عسى) من كريم رحيم تفيد تحقق الوقوع غالبًا.

* القسم الثاني:
عصاة مؤمنون خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، واعترفوا بذنوبهم، ولكن دون أن تكون منهم توبة واستقامة.

وهؤلاء لم يعطهم الله وعدًا قاطعًا بأن يتوب عليهم ويغفر لهم، ولكن أعطاهم رجاء بذلك، وقد دل على هذا الرجاء قول الله تعالى في سورة (التوبة 9):

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)) .

فأمر التوبة على عصاة هذا القسم متردد بين الخوف والرجاء إذ لم يكن منهم توبة صحيحة، ولكن الظاهر أنه لا بد أن يكون منهم استغفار من ذنوبهم، وهو ما يشير إليه ضمنًا قول الله تعالى في الآية: (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) فالمعترف بذنبه، يغلب من حاله أن يطلب من ربه العفو والغفران، ولو لم يكن مع استغفاره توبة وندم وعزم على عدم العودة إلى الذنب، ولذلك كثرت النصوص التي تدعو المذنبين إلى أن يستغفروا ربهم.

وحين نتساءل: هل الرجاء بالعفو والمغفرة بالنسبة إلى هذا القسم من العصاة هو الأرجح؟ أو توقع العقاب هو الأرجح؟ فخير جواب يظهر لنا أن الله عليم حكيم، يعلم ما في القلوب والنفوس، فيعطي كل فرد ما يلائم واقعه القلبي والنفسي من المغفرة أو العقوبة.

ويرى جمهور العلماء أن الخوف من العقاب هو الذي ينبغي أن يكون ماثلًا في تصور الذين ما زال لديهم أمل طويل في الحياة، وأن الطمع بالعفو والغفران هو الذي ينبغي أن يكون ماثلًا في تصور الذين يتوقعون قرب آجالهم وأن شمس حياتهم آذنت بالغروب، على أن الترجية بـ (عسى) من الكريم الرحيم تفيد تحقق الوقوع غالبًا كما سبق بيانه.

* القسم الثالث:
عصاة مؤمنون أسرفوا جدًّا على أنفسهم، فلم يتوبوا ولم يعترفوا بذنوبهم؛ لأن أفكارهم ضائعة في أوحال المعصية، وإراداتهم مشتتة في عاتيات الأهواء.

ورجاء هؤلاء بالمغفرة ضعيف، ولكنه غير منقطع نهائيًّا، وتوقع العقوبة هو الأرجح بالنسبة إليهم، وقد دل على ذلك قول الله تعالى في سورة (التوبة 9):

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)) .

مرجون: مؤخرون، من الإرجاء وهو التأخير.

أي: فهم مؤخرون لأمر الله، والله بعلمه يحيط بما في قلوبهم ونفوسهم من خير وشر، ويحيط بظروفهم الاجتماعية، وبالأمور التي جعلتهم ينزلقون في المعصية، وهو بحكمته يضع كلًا من عفوه أو عقابه في الموضع الملائم، لا يظلم أحدًا مثقال ذرة، وجانب فضله ورحمته سبحانه أرجح وأسبق في كل الأحوال من جانب عدله وسخطه.

هذه هي الأقسام الثلاثة لعصاة المؤمنين أخذًا من مفاهيم النصوص القرآنية، وقد ظهر لنا أن مرتبة التوابين أعلى المراتب بين عصاة المؤمنين، بل هي أعلى المراتب بين المؤمنين جميعًا؛ لأنه لا يخلو مؤمن –باستثناء المعصومين- من معصية ولو صغيرة، ويجب عليه أن يتوب منها، فإذا تاب دخل في زمرة التائبين، والمؤمن العاصي الذي لا يتوب يضيف إلى معاصيه معصية ترك واجب التوبة، ولذلك جاء في النصوص الإسلامية الحث والتشجيع على التوبة بنسبة كبيرة.

منها قول الله تعالى في سورة (الشورى 42):

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)) .

ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه.

ومنها ما روى البخاري عن الحارث بن سويد قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثين: أحدهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا –أي بيده- فذبه عنه. ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرضٍ دوية مهلكة، معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه.

فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده.

والتائبون المؤمنون تدعو الملائكة لهم بالغفران، قال الله تعالى في سورة (غافر 40):

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)) .