موسوعةالأخلاق الإسلامية-الانحراف عن الحق(علاج الانحراف عن الحق)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الانحراف عن الحق(علاج الانحراف عن الحق)
238 0

الوصف

                                                               الانحراف عن الحق

                                                               علاج الانحراف عن الحق
                          الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 8- الانحراف عن الحق >>

العلاج:

1- قد يكون من العسير جدًّا علاج المنحرفين عن الحق في مفاهيمهم الفكرية، تأثرًا بأهواء نفوسهم وشهواتها، واستجابة لانحرافهم الخلقي.

وقد لا يكون لهم دواء إلا البتر أو العزل الكلي عن المجتمع، على أن من واجب دعاة الحق أن يبصروهم به عن طريق الإقناع بالبراهين والحجج الدامغة، وبالأساليب الحكيمة وعن طريق الترغيب والترهيب، لإقامة الحجة عليهم، وعسى أن يستجيب منهم ذو خير، وينتفع برؤية الحق منهم منتفع، ويخاف من مخالفته خائف، ويطمع باتباعه طامع.

2- أما المنحرفون عن الحق في مفاهيمهم الفكرية بسبب خطأ فكري بحت –وهم مخلصون في طلب الحقيقة- أو بسبب اتباع غير بصير وتقليد أعمى، فمسؤولية أصحاب الحق الدعاة إليه في اتخاذ الوسائل المختلفة لعلاجهم مسؤولية كبرى؛ لأن الأمل بإصلاحهم وإقناعهم بالحق كبير.

ويبدأ داعي الحق بالتودد والتأنيس، حتى يزيل حجاب الوحشة، ويستدرج إلى الألفة، ويكتسب الثقة.

ثم ينتقل إلى استخدام الطرائق الحكيمة للتبصير بوجه الحق، ومن الخير أن يتخذ طريق الإقناع والمناقشة الهادئة الحكيمة.

فإن كان المنحرف عن الحق صادقًا فعلًا في طلب الحق والبحث عنه، إلا أنه أخطأ سبيله إليه، فإنه سيسهل إقناعه متى عرفت سلسلته الفكرية التي انتهت به إلى الخطأ. وعندئذٍ يبصر بالمزالق التي جعلته ينحرف فكريًّا، ويؤخذ بيده إلى سواء سبيل البحث، فإذا وصل إلى معرفة الحق عن طريق المناقشة، وجد نفسه وجهًا لوجه أمام امتحان خلقي، بعد أن اجتاز مرحلة تحول فكري.

(أ) فإن كان من ذوي الخلق الكريم رجاعًا إلى الحق سارع فأعلن رجوعه إلى الحق وأخذه به، دون أن يجد عقبات في نفسه تصده عنه.

(ب) وإن كان في أخلاقه انحراف أو كبر أو عناد أو تعصب أو عجب بالنفس أو نحو ذلك، صعب عليه أن يعلن رجوعه إلى الحق واعترافه به، وصار له شأن آخر بعد سقوطه في الخطأ والتزامه له، وقامت في نفسه عقبات منعته من الرجوع إلى الحق، رغم أنه كان مخلصًا في طلب الحق أولًا.

وتختلف ظواهر سلوك هذا الصنف من الناس تبعًا لاختلاف نسب ما في نفوسهم من منحرفات خلقية، فمن متربص قليلًا، ومن متربص طويلًا، ومن محتال مراوغ ليوفق بين إرضاء ضميره وإرضاء نفسه، ومن مصرّ مكابر يعجز عن اجتياز عقبات نفسه. وهكذا فمن الناس من يتهرب من إعلان رجوعه إلى الحق، ويحاول تعليق البحث، ثم يتراجع تراجعًا ضمنيًّا على مراحل، حتى إذا نسي الناس موقفه السابق أخذ يعلن مذهبه الجديد موهمًا بإعلانه أنه هو ما كان يراه قديمًا، وأن شيئًا لم يتغير لديه.

ومن الناس من يطوي البحث طيًّا نهائيًّا، فلا يعلن –ولو بعد حين- رجوعه إلى الحق، ويسكت عن رأيه القديم الذي انكشف له بطلانه.

ومن الناس من إذا عرف بالحق فلم يستجب له ولم يرجع إليه، ثم قيل له: اتق الله، ووجد لديه القوة والقدرة على أن ينتقم ممن يذكره بالله ويأمره بالتقوى، أخذته العزة بالإثم فانتقم. وربما يكون في حالة ضعفه وعجزه لين الجانب، ناعم الملمس، حسن القول، يعجب الناس كلامه، ويزعم لهم أن ما يقوله بلسانه مطابق لما في قلبه، ويقدم أحلى المواعيد، ويشهد الله على ما في قلبه، فإذا ظفر بالقوة قلب ظهر المجن وسعى في الأرض فسادًا.

وقد ذكر الله هذا الصنف من الناس بقوله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)) .

ألد الخصام: أشد الخصوم خصومة، وأكثرهم جدلًا وإصرارًا على موقفه. أو أعوج الخصومة، فالألد في اللغة الأعوج.

ومن الناس من يصر على باطله عنادًا، حتى إذا نسي الناس موقفه ورأيه وما كان يقوله، تبنى الحق على أنه هو رأيه الذي اهتدى إليه بفكره، ولم يرشده أحد إليه.

ومن الناس من يرى الحق بعد أن يقام له الدليل عليه، ولكن يتابع جدله بالباطل، تغطية لموقفه، واستكبارًا عن قبول الحق من غيره، ولئلا يقال: إنه كان مخطئًا ثم اعترف بخطئه، فتخدش عند الناس كبرياؤه، وتجرح عنجهيته وعظمته، وقد يسمي ذلك كرامة وهي ليست من الكرامة في شيء، إلا أن خلقه قد امتحن في موقف من مواقف أنانيته المستكبرة، فلم يستطع أن يجتاز عقبة نفسه القاسية.

ولمعالجة أقسام هذا الصنف من الناس طرائق وأساليب شتى تحتاج إلى ذكاء كثير، وحكمة وافرة، وصبر كبير، ونفس طويل، ولا يستطيع اتخاذها والصبر عليها إلا قلة من الناس.

وهي في معظمها حيل حكيمة تستدرج من كان من أقسام هذا الصنف من حيث لا يشعر، حتى يعلن الحق بنفسه، ظانًا أن أحدًا لم يفرضه عليه، ولم يكن له فضل بتبصيره به، وإنما وصل إليه ببحثه.

ومن الخير لداعي الحق والدال عليه –متى عرف أن وجه الحق قد أشرق في فكر من يقنعه به- أن يكف عنه، ويتركه فترة من الزمن، وليحذر من إحراجه بأية كلمة تمس جانب كبره وعجبه بنفسه، إنه سيجده بعد حين من الذين ينادون بالحق الذي بصره به، ومن الذين يدعون إليه؛ لأن كرامته الموهومة لم تمس بما يجرحها، بخلاف ما لو غمز جوانب نفسه المستكبرة بشيء يجرحها، فإنه حينئذٍ يدفعه إلى الإصرار على باطله، من حيث يريد إقناعه بالحق.

وبعض دعاة الحق يقعون في خطأ كبير فاحش حينما يستثيرون من يريدون إقناعه بالحق، شيئًا من جوانب نفسه المعاندة المستكبرة، فيدفعون به إلى أن يصر على الباطل بعناد واستكبار، وربما كانوا هم بإثارتهم له ضحية شيطان من شياطين أنفسهم، وعبيد هوى من أهوائها، ولو كانوا ينصرون الحق ويدعون إليه، فليتقوا الله في اختيار وسائل وأساليب الدعوة المجدية المؤثرة النافعة التي ترضي الله تعالى، ولا يكونوا عونًا لشيطان صاحب الباطل، بل عليهم أن يكونوا عونًا له ولإرادة الخير فيه ولضمير الحق لديه على نفسه وهواه وشيطانه.

فمن واجب دعاة الحق أن يلاحظوا طباع الناس المختلفة، ويعاملوا كل ذي طبع بما يلائمه من وسائل الإصلاح، وعليهم أن يضعوا في حسابهم أن في الناس معاندين مستكبرين، إذا استثيروا من مغامز عنادهم واستكبارهم أصروا على باطلهم ولو انكشف لكل ذي عين.

يحكى أن رجلين اصطحبا في طريق، وكان أحدهما عنيدًا مستكبرًا، إذا رأى رأيًا أو أخطأ خطأ تعصب له، ولو تبين له أن الحق على خلافه، فبينما هما يسيران بدا لهما من بعيد حيوان على الأرض، فساءل بعضهما بعضًا: ما هذا؟ فرأى العنيد منهما أنه جديٌ صغير أسود، ورأى صاحبه أنه غراب، واختلفا ولزم كل منهما رأيه. واستثار من رأى أنه غراب في صاحبه ما لديه من كبر وعناد، بعد أن تشارطا، ثم أخذ حجرًا فرماه إلى جهة الحيوان فطار وعلا في الجو، وظهر أنه غراب، فقال العنيد منهما لصاحبه: إنه جديٌ ولو طار.

على الرغم مما في القصة من مبالغة، إلا أنه يوجد كثير من الناس يصرون على باطلهم مثل هذا الإصرار، حينما يستثارون من مغامز العناد والاستكبار ولو وضح الحق لديهم مثل ضوء النهار.

ومن قصص العناد المضخمة التي يحكي فيها الناس صورة الإصرار على الباطل، قصة أبي عناد:

يحكى أن فلاحًا اشتهر في قومه بالعناد العجيب والإصرار على الخطأ، حتى صار يضرب فيه المثل بالعناد والإصرار على الخطأ، وأطلق القوم عليه كنية أبي عناد.

وكان لأبي عناد مزرعة زرع فيها بطيخًا، فنمت عنده واحدة منهن نموًا كبيرًا، فقال في نفسه: إن هذه تصلح لأن أقدمها هدية للأمير، وهو يكرمني عليها، فحملها للأمير على دابته، وطلب الدخول إليه ليقدم له تحفة مزرعته، والجميع يعرفونه بخلقه، فلما قدم هديته أراد الأمير أن يحاوره ويمازحه، فقال له: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، هذه البطيخة كبيرة جدًّا، فكيف نقطعها يا أبا عناد؟.

فأخطأ أبو عناد وقال: يا سيدي الأمير هذه تقطع بالمقراض –أراد أن يقول: بالسكين- فأخطأ لسانه فقال: بالمقراض، فأصر على الخطأ بعناد.

فقال له الأمير: لعلك أخطأت يا أبا عناد، فأنت تريد أن تقول: بالسكين، فسبق لسانك فقلت: بالمقراض.

قال: لا أيها الأمير، هذه لا تقطع إلا بالمقراض، وأصر أبو عناد على خطئه.

فحاوره الأمير هو وحاشيته وداوروه ليرجع إلى الصواب، فلم يرجع، وظل مصرًا على ما قال.

قال الأمير: خذوه وغرقوه في البحر شيئًا فشيئًا ليرجع عن خطئه، فأخذوه ورموه في مكان من البحر، وجعلوا يسألونه: بماذا؟ فيقول: بالمقراض، وظل هكذا حتى وصل الماء إلى فمه، وهو يقول: بالمقراض، فغمسوا رأسه بالماء فرفع يده عاليًا وجعل يشير بأصبعيه بمثل حركة المقراض فتحًا وضمًا.

فلما رأى الأمير منه ذلك استغرق في الضحك، وقال: أخرجوه إن أبا عناد لن يرجع عن خطئه ولو لقي حتفه، ثم أكرمه على هديته، وانصرف الرجل.

إن ظاهرة العناد والإصرار على الخطأ ولو ظهر وجه الحق، ترجع إلى خلق الكبر والعجب، وقسوة النفس والقلب، وقد ترجع إلى خلق الحسد، وقد ترافق ذلك حماقة وضعف في الإدراك، وقد ترجع إلى غير ذلك من أهواء النفس وشهواتها.

وبعض الناس قد يسبب لهم كبرهم وعنادهم الكفر والجحود بالله، ثم العذاب الأليم في نار جهنم.

وأخف أقسام المستكبرين المعاندين من يراوغ فيقر بالحق في نفسه، ولكنه يحاول أن لا يظهر للآخرين أنه كان على خطأ فاستبان له الحق فرجع إليه.