موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في النفس(1- في النفس)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في النفس
1- في النفس
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الثاني: في النفس بوجه عام >>
1- في النفس
أطلقت النفس في القرآن على شيء في داخل كيان الإنسان، جامع لكثير من الصفات والخصائص الإنسانية، التي لها آثار ظاهرة في السلوك الإنساني.
ولئن كانت ذات هذا الشيء وحقيقته غير معلومة على وجه التحديد لدى الناس، إلا أن كثيرًا من صفاته وخصائصه وآثاره الظاهرة في السلوك مدركة معلومة، موصولة بالشعور الظاهر لدى الإنسان السليم.
ومع الإطلاق القرآني لكلمة النفس، وردت عدة صفاتٍ وبيانات، توضح جملة من خصائص النفس وصفاتها وآثارها في السلوك، وهذه تكشف عن المراد من النفس في داخل كيان الإنسان.
ويظهر من متابعة النصوص القرآنية أن النفس قد أطلقت في القرآن على شيء هو في داخل كيان الإنسان، يشتمل على كل الصفات والخصائص التي تكونت منها ماهيته، دون النظر إلى الهيكل الجسدي الذي هو وعاءٌ لها.
فالنفوس البشرية كلها قد خلقت من نفس واحدة، هي نفس الإنسان الأول (آدم)، ثم اشتق الخالق من هذه النفس الواحدة نفس زوجها، ثم بث منهما عن طريق التناسل كل السلالات البشرية المتكاثرة حتى تقوم الساعة. وهذا يدل على أن أسس خصائص النفوس البشرية ومكوناتها وعناصرها تشترك في أصول واحدة، وإن اختلفت نسب العناصر في الأفراد، ومن الطبيعي أن يتبع هذا الاختلاف في نسب العناصر اختلافٌ ما في صفات الأفراد وخصائصهم، مع وحدة العمود الأصلي الذي تشترك فيه جميع الأفراد.
والنفوس هي التي تمنح الحياة، وهي التي تموت وتذوق الموت؛ فهي التي تقتل وهي التي يتوفاها الله.
والنفس من صفاتها: أنها تهوى فلها أهواء، وتشتهي فلها شهوات، وتشعر بالمشقات، وتصبر أو تضجر وتخاف أو لا تخاف، وتخشى أو لا تخشى، وتجود أو تبخل وتشح، وتحسد أو لا تحسد، وترضى أو لا ترضى، وتقنع أو تطمع. وتدرك أو لا تدرك، وتعلم أو تجهل، وتشك وتظن وتستيقن، ويمسها الحرج والضيق أو تنشرح، وتفرح أو تحزن. وتتكبر أو تتواضع، وتسر أو تتحسر، وتتأثر بالقول البليغ أو لا تتأثر، إلى غير ذلك من صفات هي من قبيل المشاعر الوجدانية والإدراكية.
والنفس من صفاتها: أنها تهتدي أو تضل، وتتزكى أو تتدنس، فمنابع الخير والشر لديها، ولديها فطرة إدراك الخير والشر، ولديها الدوافع لفعل كل منهما.
والنفس من صفاتها: أنها عاملة كاسبة، تعمل وتكسب أفعال الخير وأفعال الشر عن وعي كامل منها، ولا تكون كذلك ما لم تكن الإرادة الحرة من خصائصها، ومن عناصرها.
ولما كانت النفس عاملة كاسبة لما يصدر عن الإنسان، وذات إدراك ووعي كامل للخير والشر، كانت مسؤولة مكلفة.
والجزاء هو ثمرة المسؤولية والتكليف، لذلك كان من صفات النفس أنها تلام وتمدح، وتجازى على الخير خيرًا وعلى الشر شرًا، وتوفى يوم القيامة ما كسبت، وإذا اكتسبت شرًا كانت هي الظالمة وهي المظلومة من قبل ذاتها.
ولما كانت مسؤولة مكلفة مجازاة على أعمالها، كان لا بد في فترة ابتلائها من أن تكون موضوعة موضع المراقبة الدائمة، والمراقبة تستتبع تسجيل أعمالها، لذلك فهي تجد ما عملت من خير أو شر محضرًا مسجلًا.
وقواعد العدل في الجزاء تقتضي المحاسبة قبل المعاقبة، وقواعد العدل في المحاسبة تقتضي منح حق الدفاع، لذلك تأتي كل نفس تجادل عن نفسها يوم القيامة عند الحساب.
ولما كانت كل نفس بصيرة بما عملت، عالمة بما كسبت من خير وما كسبت من شر، كانت قادرة على المحاسبة الذاتية، فيقال للإنسان يوم القيامة:
(اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) .
ولما كانت منابع الخير والشر موجودة لدى النفس، ولما كان لديها فطرة إدراك الخير والشر، ولديها الدوافع لفعل كل منهما، كان من صفاتها الأساسية الفطرية أنها لوامة لذاتها على ما تكسب من شر ما لم يمت حس الخير لديها أو يتخدر أو يغشى عليه في حالة مرضية. وكان من صفاتها الأساسية الفطرية أن تشعر بالطمأنينة إذا كسبت خيرًا، فهي في جانب فعل الخير مطمئنة، وفي جانب فعل الشر لوامة.
وحينما تتجه إلى فعل الشر تدفعها إليه وساوس الاستمتاع بلذته، وتسويلات حب العاجلة والرغبة بزينة الحياة الدنيا، فهي بالنظر إلى هذا الجانب منها موسوسة، مسولة، وتعتمد في وساوسها وتسويلاتها على الأوهام والظنون وما فيها من زخارف، وينتهي الأمر بها إلى أن تكون أمارة بالسوء، فإما أن تستجيب بعد ذلك لنداء هذا الجانب منها وإما أن ترفض.
وحينما تتجه إلى فعل الخير تدفعها إليه دوافع الخير الراقية فيها، والرغبة برضوان الله والجزاء الكريم الذي أعده للمتقين وللأبرار وللمحسنين. وهذه الدوافع يقترن بها واعظ يعظ بالخير في داخل كيان الإنسان ثبت وجود هذا الواعظ في حديث صحيح رواه أحمد والترمذي والنسائي عن النواس بن سمعان. أوردته في بحث الضمير الأخلاقي. فإما أن تستجيب بعد ذلك لنداء هذا الجانب وإما أن ترفض.
كل هذه المفاهيم عن النفس قد دلت عليها نصوص من القرآن الكريم.
أطراف النفس:
وإذا كانت النفس في داخل كيان الإنسان، هي ما يشار إليه بضمير المتكلم (أنا).
ثم إذا حللنا صفات النفس أخذًا من المفاهيم التي دلت عليها النصوص القرآنية، وجرينا على طريقة مدرسة التحليل النفسي في إثبات (الأنا) و(الأنا الأعلى) مع تعديل اقتضته الدلالات القرآنية؛ كان لنا أن نثبت للنفس أطرافًا ثلاثة:
الطرف الأول:
طرف أعلى رباني، قد نطلق عليه (الأنا الأعلى).
الطرف الثاني:
طرف أسفل شيطاني، قد نطلق عليه (الأنا الأسفل).
الطرف الثالث:
طرف أوسط، هو الذي يحدد مسيرة السلوك مستجيبًا لنداء الطرف الأعلى وأوامره، أو لوساوس وأوامر الطرف الأسفل.
وهذا الطرف تقع فيه الإرادة الحرة المختارة المنفذة، وقد نطلق عليه (الأنا الأوسط) أو (الأنا المريد).
فالطرف الأعلى:
وهو الطرف الرباني، ينزع إلى الخير، ويعظ به ويأمر بفعله، ويحس بالفضيلة وينعم بفعلها، ويلوم على فعل السوء والشر ويحس ... السلوك – الطرف الأعلى الرباني (الأنا الأعلى)
الطرف الأوسط المريد (الأنا المريد)
الطرف الأسفل الشيطاني (الأنا الأسفل)
بالنفرة منهما. فهو من النفس الطرف اللوام، الآمر بالخير والناهي عن الشر. ويقع في هذا الطرف ما أسميناه سابقًا بالضمير الأخلاقي، وتؤازره لمة ملك يعظ بالخير. ولكن هذا الطرف قد يضمر إلى حد الموت، أو يصاب بمرض شديد ينعم به إحساسه، أو يقل به إحساسه، وكل ذلك بسبب استغراق الإنسان في إهماله، وعدم الاستجابة إليه، واتباع وساوس الطرف الأسفل.
والطرف الأسفل:
وهو الطرف الشيطاني، يوسوس، ويسول بفعل السوء والشر، ويزين الأوهام والظنون الباطلة، ويشكك بالحق. وحين يستشري يكون أمارًا بالسوء، نزاعًا بقوة إليه، فهو من النفس الطرف الأمار بالسوء، وتؤازره وساوس الشياطين من الإنس والجن.
والطرف الأوسط:
وهو الطرف الذي يحدد مسيرة السلوك، هو الذي لديه الإرادة المنفذة، وهذا الطرف تتجاذبه نوازغ الطرف الأسفل، ونوازع الطرف الأعلى.
فإذا استجاب لهداية الطرف الأعلى، كانت النفس مطمئنة، ثم كانت بفضل الله بعد ذلك راضية مرضية، يطفح سرورها بياضًا على الوجه يوم القيامة.
وإذا استجاب لوساوس الطرف الأسفل وأوامره، كانت النفس قلقة مضطربة، تخشى سوء المصير، ثم كانت بعدل الله بعد ذلك كئيبة متألمة نادمة متحسرة، فيطفح كل ذلك سوادًا على الوجه يوم القيامة.