موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(ثانيا)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب(ثانيا)
296 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في القلب

                                                                       ثانيا
                                             الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الرابع: في القلب >>

ثانيًا:
وتصدر عن القلب الإرادات الموجهة للسلوك، من مستوياتها المختلفة حتى مستوى العزم.

وبالإرادة الجازمة الواعية، يعقل القلب مراكز النفس الأخرى عن نزغاتها واندفاعاتها الجانحة مهما كانت جامحة، والعقل هو التقييد والمنع بحسب المصلحة التي يراها العاقل.

وتصدر عن القلب النيات والمقاصد من الأعمال، وقد تكون النيات والمقاصد موافقة لظواهر السلوك، وقد لا تكون، وحقيقة المحاسبة عند الله تكون على ما في القلب من نيات ومقاصد من وراء الأعمال.

فالكسب الحقيقي للإنسان مصدره دائرة قلبه، ومن الواضح إذن أن يكون الامتحان الرباني موجهًا لقلبه، ولما يكسبه قلبه.

دل على هذه المفاهيم نصوص متعددة من القرآن الكريم وبيانات الرسول صلوات الله عليه:

(أ) يقول الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):

(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (5)) .

فربط الله في هذه الآية مسؤولية الإنسان عن سلوكه بما تعمده قلبه، فدل على أن الإرادة الموجهة للسلوك الذي لا يكون على سبيل الخطأ تصدر عن القلب.

وبهذا تكون النصوص المتعلقة بالإرادة موجهة لدائرة القلب.

(ب) وقبل هذه الآية قال الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):

(مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... (4)) .

جاء هذا بعد أن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتقي الله ولا يطيع الكافرين والمنافقين، ولدى تحليل الترابط يتبين لنا ما يلي:

إن تقوى الله تستلزم طاعته، وطاعة الله تتناقض مع طاعة الكافرين والمنافقين لتناقض الاتجاهين، ولما كان موجه الطاعة هو الإرادة، وإرادة طاعة الله تناقض إرادة طاعة الكافرين والمنافقين، ولما كانت إرادات الإنسان مصدرها قلبه، والشيء الواحد لا يمكن أن يتناقض مع نفسه في حركتين متناقضتين، ولما كان الإنسان لا يملك غير قلب واحد في جوفه، كانت طاعة الكافرين والمنافقين تعني عدم طاعة الله، وكانت طاعة الله تعني عدم طاعة الكافرين والمنافقين، وخلاف هذا تناقض مرفوض عقلًا وواقعًا.

واكتفى النص القرآني عن هذا التحليل المنطقي الطويل عن حالةٍ للنفس الإنسانية بقول الله تعالى: (مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) أي: حتى يتمكن أن يكون له إرادتان متناقضتان إحداهما تتجه لطاعة الله، والأخرى تتجه لطاعة الكافرين والمنافقين.


فاستند الإقناع القرآني هنا إلى المبدأ العلمي المنطقي الذي يحكم بأن اجتماع النقيضين مستحيل، فمتى وجد أحد النقيضين انتفى الآخر عند اتحاد الزمان والمكان، وبشرط عدم انفكاك الجهة، كما هو مقرر عند المناطقة.  انظر بحث التناقض في كتاب "ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة" للمؤلف.  

(ج) وقال الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)) .

فرفع الله في هذه الآية المؤاخذة عن اللغو في الأيمان، وهي الأيمان التي تنطلق من الألسنة دون قصد الحلف بالله، والمؤثر في انطلاقها عادة اللسان، والرغبة بملء الفراغ الزمني بكلام غير مقصود وغير مردود، ريثما تستقيم في الذهن الفكرة المقصودة للتعبير عنها، وكأن الإنسان يحرص على أن لا يظهر العي في لسانه، فيحشو كلامه بجمل اعتاد أن يقولها من غير تفكير، حتى تتضح في ذهنه الجمل التي يريد أن يقولها.

ثم علقت الآية المسؤولية بما كسبت القلوب من أيمان، أي: بالأيمان التي أريد بها القسم فعلًا، وأوضحت أن هذه الإرادة من كسب القلوب، فثبت أن الإرادات الموجهة للسلوك مصدرها القلب.

(د) ولما كانت إرادة الإنسان الواعية، هي التي تعقل الإنسان عن اتباع أهوائه وشهواته ونزغاته التي تميل به عن صراط الحق والخير، وكانت هذه الإرادة تصدر عن دائرة القلب، قال الله تعالى في سورة (الحج 22):

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)) .

فجعل الله العقل من خصائص القلب؛ لأن المراد من العقل الإرادة العالمة القادرة على كبح جماح الأهواء والشهوات، وعقلها وحجزها في دائرة الحق والخير.

وليس المراد هنا من العقل كما يظهر –والله أعلم- التفكير الذهني الموصل إلى المعرفة، فهذا له مركز آخر، وكم من عالم عارف بالحقيقة، إلا أنه لا عقل له؛ لأنه لا يستطيع أن يسيطر على أهوائه وشهواته ويعقلها عن جنوحها وجموحها، فيدفع بنفسه إلى العواقب الوخيمة، ويقذف بنفسه إلى المهالك، فيكون علمه هو والجهل سواء، إذ فقد الإرادة العاقلة الحازمة.

لذلك وصف الله الكافرين بأنهم لا يعقلون، مع أن لهم ذكاءً علميًّا يساوي أو قد يزيد على الذكاء العلمي الذي يملكه بعض المؤمنين الذين يعقلون.

وبهذا يتضح لنا الفرق بين الذكاء، والمعرفة التي تكتسب به، وبين العقل الذي يعقل النفس عن الانحراف، ويعقل السلوك عن الجنوح، مستندًا في أمره إلى ما قدمت له المعرفة من نتائج، فرب ذي ذكاء محدود هو كثير العقل، ورب ذي علم قليل هو كثير العقل؛ لأنه قوي الإرادة قادر على ضبط نفسه ورب ذي ذكاء حاد وعلم واسع هو قليل العقل؛ لأنه ضعيف الإرادة، عاجز عن ضبط نفسه، وحجزها عن أهوائها وشهواتها، التي تجره إلى تهلكته وشقائه وآلامه الكثيرة.

وهذا هو أحد معنيي العقل، والمعنى الآخر هو العقل العلمي النافع في العقل الإرادي.

(هـ) وأم موسى بعد أن وصل ابنها موسى إلى مأمنه في بيت آل فرعون، وأصبح فؤادها فارغًا من الهم والحزن، وكادت تبدي بأن الطفل الذي التقطه آل فرعون هو ولدها من شدة فرحها، ربط الله على قلبها، فقوى إرادتها، فكتمت أمرها، قال الله تعالى في سورة (القصص 28):

(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)) .

فدل هذا على أن الإرادة تصدر عن القلب، إذ قويت إرادة أم موسى على ضبط نفسها، بالمعونة الربانية التي ربط الله بها على قلبها، لتكون من المؤمنين حقًّا. والربط على القلب كناية عن تثبيته بما يجعل فيه الأمن والطمأنينة.

(و) والفتية المؤمنون الذين أووا إلى الكهف، واعتزلوا قومهم المشركين، قد ثبتهم الله وقوى إراداتهم، فربط على قلوبهم، وألهمهم الصبر، وفيهم قال الله تعالى في سورة (الكهف 18):

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)) .

(ز) ولما كانت الشجاعة في القتال من قوة الإرادة، كان الربط على قلوب المؤمنين في غزوة بدر مقويًّا لإراداتهم، وممدًا لهم بالشجاعة القتالية الكافية، والطمأنينة والأمن، وفي بيان ذلك خاطبهم الله بقوله في سورة (الأنفال 8):

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11)) .

وحين تقوى الإرادة جدًّا تصل إلى مستوى العزم، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك وتفصيله في الفصل الخاص بقوة الإرادة، الفصل الثالث من الباب الرابع من الكتاب.

(ح) ولما كانت دائرة القلب مصدر الإرادة الموجهة لسلوك الإنسان، كان ما في القلب هو المقصود بالامتحان، وفي ذلك يقول الله تعالى للمؤمنين بمناسبة ما جرى في غزوة أحد، وتعليقات المنافقين عليه، في سورة (آل عمران 3):

(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)) .

فابتلاء ما في الصدور هو امتحان الكسب الذي تكسبه القلوب بالإرادات التي تصدر عنها، وتمحيص ما في القلوب هو تخليصها وتنقيتها من نزغات الإثم والخطيئة وعوامل ضعف الإرادة، بما تمر فيه من امتحانات وتجارب قاسيات، ومن أشدها مصائب الحرب، ونكبات المعارك القتالية، فالتمحيص من ألوان التربية الربانية للنفوس البشرية إلى أعمق دوائرها، وهي دائرة القلب.

وقال الله تعالى في سورة (الحجرات 49):

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)) .

وامتحان القلوب هو امتحان كسبها الإرادي، لبيان مقدار ما فيها من تقوى.