موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الفؤاد(في الفؤاد)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الفؤاد(في الفؤاد)
333 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الفؤاد

                                                                           في الفؤاد
                                 الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل الخامس: في الفؤاد >>

في الفؤاد

علمنا أن الفؤاد هو أعمق دائرة من دوائر النفس، وأن مجموعة من خصائص النفس ووظائفها وأعراضها تتركز فيه أو تصل إليه وتستقر فيه.

ولدى البحث في الفؤاد أخذًا من الدلالات القرآنية يتضح ما يلي:

* أولًا:
قد تنتهي إلى عمق الفؤاد وتستقر فيه العلوم والمعارف الثابتة، والعقائد الراسخة، مقترنة بشحنة من العواطف الملائمة لها.

ولما كان أول خط المعرفة المكتسبة في حياة الإنسان يبدأ من الحس الظاهر، وأكرم الحواس السمع والبصر، وكان آخر خط المعرفة ينتهي عند عمق الفؤاد، امتن الله على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة، وأبان أن الغاية من ذلك امتحان إراداتهم، هل يشكرون أم يكفرون.

وفي بيان ذلك قال الله تعالى في سورة (النحل 16):

(وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)) .

ولكن الناس قليلًا ما يشكرون، قال الله تعالى في سورة (السجدة 32):

(ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9)) .

وقال الله تعالى في سورة (الملك 67):

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (23)) .

وعملية خلق السمع والأبصار والأفئدة كانت عملية إنشاء متدرج، قال الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78)) .

وتاريخ الأمم السالفة أثبت أن الشاكرين من الناس قليلون، ولذلك حاق بهم عذاب الله، قال الله تعالى في سورة (الأحقاف 46):

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)) .

أي: مكناهم فيما لم نمكنكم فيه، فلم يستعملوا ما أعطاهم الله من سمع وأبصار وأفئدة فيما خلقت من أجله، إذ جحدوا بآيات الله، واستهزؤوا بنذر العذاب، فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون.

وحين لا يؤمن الإنسان بالحق ولا يطمئن قلبه إليه، يظل فؤاده يتقلب باحثًا عما يسعده من العقائد فلا يجد؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الباطل، وليس بعد الهدى إلا الضلال، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)) .

* ثانيًا:
من دائرة الفؤاد ينطلق الميل الإرادي لكسب عمل الخير والشر، دل على ذلك ما نفهم من قول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)) .

أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، والاتباع هو توجه إرادي، وقد جعل الله المسؤولية عن العمل الإرادي منوطة بأدوات المعرفة ومركز الإرادة، فالمعرفة تنتهي في مسيرها إلى الفؤاد، والإرادة الموجهة للسلوك تنبع من الفؤاد، وحين تتجه الإرادة اتجاهًا جاهلًا هائمًا فإنها تكون مؤاخذة على ذلك، إذ باستطاعتها أن تعتمد على المعرفة التي تيسرت لها وسائلها.

ولما كانت الإرادة الموجهة للسلوك تنبع من الفؤاد، كان الفؤاد هو المقصود من قبل الشياطين بتوجيه زخارف القول، لاستمالته إلى فعل الشرور والمعاصي والآثام، قال الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113)) .

ولتصغى إليه: أي ولتميل إليه.

فشياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، لتميل إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ثم تأتي مرحلة الرضى عن المضمون الفكري، والرضى يحرك التوجه شطر السلوك الذي يدعو إليه المضمون. فتجزم الإرادة، فيكون نتيجة ذلك اقتراف المعاصي والآثار، وألوان الظلم والعدوان.

* ثالثًا:
ومن دائرة الفؤاد ينطلق الحب والهوى العميق، ولذلك دعا إبراهيم عليه السلام ربه بقوله كما حكى الله في سورة (إبراهيم 14):

(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)) .

تهوي إليهم: تحبهم وتهواهم أو تقصدهم.

* رابعًا:
قد يصل إلى دائرة الفؤاد ويتغلغل فيه الهم والحزن والقلق، فإذا زالت أسبابها فرغ الفؤاد منها، وهذا ما حصل لأم موسى حين اطمأنت على ولدها إذ وصل بعد رحلة اليم إلى قصر فرعون، والتقطه آل فرعون، وقالت امرأة فرعون له: قرة عين لي ولك، لا تقتلوه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا. وكادت أم موسى أن تبدي أنه ولدها من شدة فرحها، لولا أن ربط الله على قلبها، فثبتها.

قال الله تعالى في سورة (القصص 28):

(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)) .

هذا ما رأيته أرجح في معنى فراغ فؤاد أم موسى والله أعلم. ولأهل التأويل في تفسير ذلك وجوه: منها أنه أصبح فارغًا من العقل من فرط الجزع والخوف، ومنها غير ذلك.

* خامسًا:
الفؤاد مركز البصيرة التي تتلقى الوحي وترى مشاهد الغيب في قلوب الأنبياء، قال الله تعالى في شأن الوحي الذي أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في سورة (النجم 53):

(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)) .

* سادسًا:
الفؤاد مركز التثبيت العميق للنفس الإنسانية، ولذلك قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (هود 11):

(وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)) .

ومن أسباب تنزيل القرآن مفرقًا تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم قال الله له في سورة (الفرقان: 25):

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32)) .

* سابعًا:
ولما كانت دائرة الفؤاد هي عمق النفس الأقصى كان عذاب المجرمين يوم القيامة ينفذ إلى داخلها، قال الله تعالى في سورة (الهمزة 104):

(نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ (9)) .

وحين تطلع النار على الأفئدة فإنها تنفذ إلى داخلها حتى تلامس كل ذرة فيها وتكشفها.

إنها عليهم مؤصدة: أي مغلقة أبوابها عليهم إمعانًا في سجنهم وتعذيبهم.

وفي موقف الحساب تكون أفئدة الظالمين هواءً، أي: خالية من أي أمل بالنجاة، قال الله تعالى في سورة (إبراهيم 14):

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)) .

مهطعين: مسرعين، أو ساكنين أذلاء.

مقنعي رؤوسهم: رافعي رؤوسهم وأنظارهم في ذل وخشوع ودهشة.

لا يرتد إليهم طرفهم: إذ هم في دهشة يرقبون ما سيحل بهم من عقاب.

وأفئدتهم هواء: خالية من الأمل بالنجاة، ومن أية حركة يحاولون بها إنقاذ أنفسهم مما ينتظرون من جزاء على ما قدموا من عمل.