موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(3- الإنسان حيوان مُبِين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(3- الإنسان حيوان مُبِين)
204 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام

                                                                 3- الإنسان حيوان مُبِين
                                       الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

3- الإنسان حيوان مُبِين

امتن الله على الإنسان بأنه علمه البيان، فقال تعالى في أول سورة (الرحمن 55):

(الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ (4)) .

أي: علمه القدرة على التعبير بالكلام عما في نفسه من مشاعر، وعما في فكره من معاني.

والبيان عند الإنسان من المواهب الجليلة التي وهبه الله إياها، فهو الوسيلة التي يعرف بها غيره حصائل خبراته وتجاربه، ويتعرف بها على حصائل خبرات الآخرين وتجاربهم. وهو الوسيلة التي يكشف بها الإنسان عن مطالبه وحاجاته، ومشاعر نفسه، وآلامه وآماله، وينقل بها أفكاره وعلومه للناس، ويتلقى بها أفكار الناس وعلومهم.

واللسان المبين ترجمان النفس والفكر، وعن طريقه تلتقي النفس بالنفس، والفكر بالفكر، فإذا أضيفت إليه الكتابة بالقلم اكتملت للإنسان وسائل هذا اللقاء النفسي والفكري، وإن لم يحصل التلاقي الجسدي، ولو تباعدت الأزمنة والأمكنة، ولو صار أحد طرفي اللقاء من الغابرين ومن أهل القرون الأولى، فباستطاعتنا على هذا أن ندخل الكتابة ضمن عموم البيان.

واللسان ترجمان الإرادة والمعبر عنها، فالعقود بين المتعاقدين تعتمد على بيان اللسان الذي يدل على ما في النفس من إرادات جازمة، كعقود البيع والشركة والرهن والهبة والزواج وغير ذلك من عقود كثيرة. وكذلك حل العقود يعتمد على بيان اللسان، كالطلاق والعتق وإنهاء عقد الشركة ونحو ذلك.

وبهذا تظهر لنا أهمية الكلمة في حياة الإنسان، وأهمية الكلمة في تعاليم الإسلام. فالالتزامات الدينية التي تحول الطاعات التي ليست بواجبة إلى طاعاتٍ واجبة تعتمد على الكلمة وهي كلمة النذر، والعهود والوعود –وهي من الالتزامات التي يلتزمها الإنسان تجاه غيره- يعتمد تثبيتها على الكلمة، وإعلان الإسلام وإعلان الكفر يعتمدان على الكلمة، فالنطق بالشهادتين يدخل في الإسلام، والنطق بألفاظ الكفر يخرج من الإسلام.

إن كلمة واحدة قد تعصم من القتل، وأخرى قد تسوق إليه، وإن كلمة قد تدخل الجنة، وأخرى قد تدخل النار، نظرًا إلى أن الكلمة في الأصل إنما هي تعبير عما في النفس.

روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم.

وفي وصية الرسول صلوات الله عليه بحفظ اللسان روى الترمذي عن سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال:

قل: ربي الله، ثم استقم

قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:

هذا

ولما كان الإسلام يولي الكلمة أهمية عظيمة، ولما كان من تربيته الرفيعة عنايته البالغة بصيانة لسان المسلم، نظرًا إلى أنه ترجمان الفكر والنفس، وعنوان العقل، رأينا الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل يقرر أن ملاك عناصر الخير الموجبة للجنة كف اللسان.

روى الترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال:

لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقييم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج.

ثم قال:

ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل.

ثم تلا:


(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)) .  الآيتان 16-17 من سورة (السجدة 32).  

ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ:

ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟

قال معاذ: قلت: بلى يا رسول الله، قال:

رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد.

ثم قال:

ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟

قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه فقال:

كف عليك هذا

قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال:

ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!.

وتظهر أهمية الكلام حينما يكون تعبيرًا صحيحًا عما في النفس، أما حشو الكلام ولغوه مما لا يحمل دلالة مقصودة فلا يحمل كل هذه الأهمية، ولكن على المسلم أن يصون لسانه عن اللغو من القول.

أقسام الكلام:

والكلام في حياة الإنسان: إما أن يكون ذا دلالة مقصودة، وهو الذي يعتبر الإنسان مسؤولًا عنه مسؤولية كلية؛ لأنه بيان لما في النفس، أو لما يراد بيانه. وإما أن يكون ذا دلالة غير مقصودة، وهو اللغو من القول الذي ينطلق من لسان الإنسان بتأثير العادة، دون أن يلاحظ ما يدل عليه من معاني، أو يقوله الإنسان بغرض اللهو والعبث.

والكلام ذو الدلالة المقصودة: منه ما هو خير أو خيره غالب، ومنه ما هو شر أو شره غالب، أو استوى خيره وشره، ومنه ما هو مباح لا هو خير فيطلب، ولا هو شر فينهى عنه.

وقد سمى الله كلمة الخير كلمة طيبة، وسمى كلمة الشر كلمة خبيثة، وضرب لكلٍ من الكلمتين مثلًا، فمثل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، ومثل الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وأعلن سبحانه أن الكلم الطيب يصعد إليه.

قال الله تعالى في سورة (إبراهيم 14):

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)) .

وقال الله تعالى في سورة (فاطر 35):

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (10)) .

وأشرف أمثلة الكلم الطيب كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله، فما يتصل بها من كلام يعلن تنزيه الله وتسبيحه، ويثبت كمال صفاته وأسمائه الحسنى، فما يتصل بأصول العقيدة الإسلامية.

ومن أمثلة الكلم الطيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم كل ما فيه خير ومنفعة عاجلة وآجلة، ومخاطبة الناس بقولٍ حسن، وصدق الحديث، والنصيحة بالخير، والدعوة إلى الله وإلى خير العمل.

وأضداد هذه الأمور من أمثلة الكلم الخبيث، ككلمة الكفر، وما يتصل بها، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والدعوة إلى الضلال والشر، والكذب المنهي عنه، والغيبة والنميمة، والسب والشتيمة والتعيير والتنقيص وكل هجر من القول.

والكلام المباح هو الكلام الذي لا ضرر فيه، وليس فيه مصلحة تطلب شرعًا ولو على سبيل الندب، وأكثر كلام الناس في مجالسهم ومعاملاتهم من هذا القبيل.

وأما الكلام ذو الدلالة غير المقصودة كاللغو من القول، والكلام الذي ينطلق به اللسان بحكم العادة، كالعبارات التي يكثر استعمالها في اللسان، وتكون تكأة للحديث، وكعبارات التأكيد التي يستعملها الناس دون ملاحظة دلالاتها الحقيقية، كالأيمان التي يحلفونها في غضون كلامهم، دون أن يقصدوا توثيق ما يقولون بالحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه؛ فموقف الإسلام بالنسبة إلى هذا القسم من الكلام موقف الصارف عنه، الناصح بتنزيه الألسنة والأسماع منه، وما كان منه بحكم تأثير العادة فقد رفع الله المؤاخذة عنه كاللغو من الأيمان؛ لأنها ألفاظ غير مرادة الدلالة.

وفي هذا المجال تهزنا إلى الكمال نصوص قرآنية متعددة، فمنها النصوص التالية:

(أ) يقول الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)) .

(ب) ويقول الله تعالى في سورة (الفرقان 25) في وصف عباد الرحمن:

(وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)) .

(ج) ويقول الله تعالى في وصف المؤمنين في سورة (القصص 28):

(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ .... (55)) .

كل هذا بالنسبة إلى اللغو الذي يملك الإنسان دفعه أو الإعراض عنه.

أما ما يسبق إليه اللسان بتأثير العادة فقد رفع الله المؤاخذة عنه، ومن ذلك لغو اليمين، فاليمين اللغو لا يؤاخذ الله بها، ولا يوجب على من حلفها ولم يبر بها كفارة، مع أنه يوصي الذين آمنوا بأن لا يجعلوا الله عرضة لأيمانهم.

قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)) .

وقال الله تعالى في سورة (المائدة 5):

(لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ... (89)) .

خلاصة صفة البيان في الإنسان:

فصفة البيان في الإنسان من جلائل الهبات التي اختص الله بها هذا المخلوق الذي كرمه.

وباستطاعتنا أن نقول في تعريف الإنسان: "الإنسان حيوان مبين".

وهذا التعريف أدق وأكمل من تعريف علماء المنطق والفلسفة: "الإنسان حيوان ناطق"؛ لأن هذا التعريف يعطي الإنسان صفة النطق، والنطق وحده قد لا يكون بيانًا لما في النفس، وإن كان مرادهم من هذا التعريف أنه حيوان يستطيع التعبير عن أفكاره، فهم يقصدون أنه مفكر معبر، لكن كلمة ناطق قاصرة بوضعها عن هذه الدلالة، بخلاف كلمة (مبين) ال