موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(14- خلق الله الإنسان في أحسن تقويم)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(14- خلق الله الإنسان في أحسن تقويم)
167 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام

                                                                  14- خلق الله الإنسان في أحسن تقويم
                                             الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

14- خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ثم هو بعد ذلك في خسر إلا الذين استثنتهم سورة العصر

أثبت الله أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم أنه في خسر بعد خسر من منزلته ومكانته بسوء عمله، حتى يكون أسفل سافلين، باستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يردون إلى أسفل سافين، وباستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر، فإنهم يحمون أنفسهم من الخسر.

قال الله تعالى في سورة (التين 95):

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)) .

وقال الله تعالى في سورة (العصر 103):

(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) .

فالله جل وعلا قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، أي منحه أكمل صفات منحها لمن خلق من عباده، فأعطاه سبحانه وتعالى مصغرات من العمل والإرادة الحرة، بالإضافة إلى ما وهبه من الحياة إذ نفخ فيه من روحه، وهذه الصفات في مستواها الأعلى الذي ليس له حدود هي من صفات الله عز وجل، وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

خلق الله آدم على صورته.

ولما خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، خلق له الجنة دارًا تناسب تقويمه الذي فضله الله وكرمه، وجعل له في الجنة منزلًا يلائم ما وهبه سبحانه من كمال، ولكنه سبحانه جعل بلوغ الإنسان إلى منزله الذي أعده له في الجنة منوطًا بأن يقدم الثمن من عمله في الحياة الدنيا، ومنح الله الإنسان طاقة عمل، وقدر له أجلًا يبذل فيه الثمن، وأعطاه القدرة التي يعرف بها الخير والشر، والحق والباطل، وأنزل له الشرائع لتعرفه الصراط المستقيم الذي يوصله إلى دار كرامته، ووضع ما منحه من خصائص وطاقات وما سخر له في الحياة الدنيا تحت سلطة إرادته الحرة الواعية التي فطره عليها، وأقام في طريقه بعض العقبات من نفسه وأهوائه وشهواته، ليتم بذلك امتحانه.

فرأس مال الإنسان الذي يمكن أن يشتري به سعادته في جنة الخلد، هو عمره في الحياة الدنيا، وما لديه من قدرة على الإيمان والعمل الصالح؛ فإن هو دفع ذلك ثمنًا للمقام الكريم والمنزل السعيد الذي أعده الله له في الجنة، حافظ بذلك على المستوى الرفيع الذي خلقه الله عليه، إذ جعله في أحسن تقويم. وإن هو بذلك ذلك ثمنًا لانحداره، وعمل على مسخ إنسانيته وتشويه صورتها، واتبع أهواءه وشهواته ووساوس الشياطين خسر رأس ماله، وخسر في مقابل ذلك المنزل الذي أعده الله له في جنة الخلد، واشترى بدله منزلًا في جهنم دار العذاب.

وبذلك يظهر تمامًا أن الإنسان في خسرٍ دائم يخسر فيه رأس ماله في الحياة ومنزله في جنة الخلد، ثم جنة الخلد كلها، ويظل يتنازل في هذا الخسر عن المستوى الذي جعله الله فيه في أحسن تقويم، حتى يصل إلى درك يكون فيه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإنهم يحافظون على مستوى ما من جنة النعيم بقدر إيمانهم وصالح أعمالهم، ويخسرون من المنازل الرفيعة في الجنة بقدر تقصيراتهم في الأعمال عما تستحقه هذه المنازل، وإلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، فإنهم يحمون أنفسهم من الخسر كله، ويحافظون على منازلهم في الجنة، وهي المنازل التي تلائم ما وهبهم الله من كمال، منذ خلقهم في أحسن تقويم.

وجاء في بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى قد أعد لكل إنسان منزلًا في الجنة ومنزلًا في النار، وأن المؤمنين يرثون في الجنة منازل الكافرين، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزلٌ في الجنة، ومنزلٌ في النار، فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ).

فالكافرون يخسرون، والمؤمنون يرثون.

أما الأسباب التي تجعل الإنسان يسير في طريق الخسر، إذا لم يحمه الإيمان والعمل الصالح، ولم يشد أزره التواصي بالحق والصبر، فهي ترجع إلى أن الإنسان مخلوق عجيب، يمثل مملكة معقدةً كبرى داخل جسمه الصغير.

ففي داخل الإنسان حشدٌ كبير من الغرائز والطبائع والشهوات والدوافع النفسية، وهذا الحشد يشبه جماهير الناس ذات المطالب المختلفة ضمن حدود مملكةٍ من الممالك البشرية. ولو تركت جماهير الناس في حالة فوضى، ينطلق كلٌ منهم وفق أهوائه الخاصة به، دون أن يجد رادعًا من سلطة حازمة وإدارة حكيمة، لكانت النتيجة خرابًا ودمارًا وفسادًا عريضًا وخسرانًا مبينًا. ونظير ذلك يحدث للإنسان داخل مملكته في ذات نفسه، إذا هو ترك جماهير أهوائه وشهواته وغرائزه في حالة فوضى، تنطلق إلى مطالبها الرعناء، دون أن تجد رادعًا من سلطة حازمة، وإرادة عاقلة حكيمة.

إن هذه الجماهير داخل النفس الإنسانية ستسوق الإنسان إلى الفساد العريض، والخسران المبين، والعذاب الأليم.

والذي يحمي الإنسان من هذا الخسران إرادته العاقلة التي وهبه الله إياها، ضمن ما وهبه من خصائص، فالإرادة الحرة في الإنسان هي التي تمثل في داخله السلطة الإدارية الحاكمة، المسؤولة عن إدارة جمهور أهوائه وشهواته ودوافعه النفسية ومطالب غرائزه، والمسؤولة عن حسن سياستها، وهي تشبه في الممالك الإنسانية ما يسمى بالحكومات الإدارية والسياسية. وحينما تضعف في الإنسان هذه الإرادة، وتخضع للمطالب الرعناء التي تلح بها الجماهير، فإن الفساد يحل داخل مملكته، وتكون هذه الجماهير الرعناء هي المستبدة، وقد يسود في داخل النفس بعض منها، فيكون هو المستبد المسيطر المتحكم بتوجيه الإرادة، ولا غرو في هذه الأحوال غير السليمة أن يسير الإنسان في طريق الخسران.

ويوجد في داخل مملكة الإنسان سلطة هي بمثابة السلطة التشريعية، فهي التي تبحث وتدرس مسالك الحياة، وقد وهبها الخالق الحكيم القدرة على أن تعرف الخير والشر والحق والباطل، وأنزل الله دينه لعباده، وأنزل فيه ما هو هداية للناس، وبالبحث الفكري وبالاهتداء بما أنزل الله تتضح لهذه السلطة الرؤية السليمة، فتقدم نصائحها وتوجيهاتها وما انتهت إليه من نتائج للإرادة التي هي السلطة التنفيذية، ثم تكون الإرادة الواعية هي المسؤولة عن الاختيار والمسؤولة عن التنفيذ.

ومسؤولية الإنسان في هذه الحياة تلزمه بأن يحسن إدارة مملكته، وبأن يحسن سياستها وتوجيهها لما يبعده عن الخسر ويحقق له الربح العظيم، وعندئذٍ يدخل في زمرة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وعندئذٍ يحافظ على المستوى التكريمي الذي خلقه الله عليه، إذ جعله في أحسن تقويم.

ولا بد أن نلاحظ قيمة التآزر الجماعي للمؤمنين في حماية بعضهم بعضًا من الخسر، إذ يستطيعون بهذا التآزر القائم على التواصي بالحق والتواصي بالصبر أن يحافظوا على مستوى التفضيل الذي فضل الله الإنسان به، فلا يخسروا منه شيئًا، ثم لا يخسروا من منازل تكريمهم في الجنة شيئًا، ولذلك كانت صفات الذين استثناهم الله من الخسر، تجمع الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. أما الصفات التي تحمي من الرد إلى أسفل سافلين فهي الإيمان والعمل الصالح فقط، ولكن هذا لا يعني الحماية من الخسارة الجزئية في منازل الجنة، فهذه الخسارة قد تحصل مع الإيمان والعمل الصالح الكافيين لدخول الجنة، فلكل من النصين دلالته، مع ترابطهما الكلي في موضوع واحد.

وقد أقسم الله في سورة (التين) بالتين والزيتون وطور سينين، وأقسم بالعصر في سورة (العصر) إشارة إلى دلالتين:

الأولى: أقسم بالعصر إشارة إلى أن الإنسان هو الإنسان في جميع خصائصه مهما اختلفت عليه الأزمنة والعصور.

الثانية: أقسم بالتين والزيتون وطور سينين وهي من مهابط الوحي، إشارة إلى أن الوحي قد نزل بالشرائع الربانية ليحافظ الإنسان على ما فضله الله به إذ خلقه في أحسن تقويم، فإذا هو اهتدى بهدي شرائع الله لم يرد إلى أسفل سافلين.