موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(2- الرؤوف الرحيم)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(2- الرؤوف الرحيم)
119 0

الوصف

                                                             خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية

                                                                         2- الرؤوف الرحيم
                                           الباب الثالث: الرسول ذو الخلق العظيم وتربية القرآن له في مجال السلوك الخلقي >> الفصل الأول: خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية >>

2- الرؤوف الرحيم

ووصف الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه رؤوف، وبأنه رحيم.

فأنزل عليه قوله في سورة (آل عمران 3):

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)) .

فاشتمل هذا النص على وصفه بخلق الرحمة التي أمده الله بها، ووصفه بلين الجانب، ثم وجهه توجيهًا تربويًّا للأخذ بجملة من مكارم الأخلاق وفضائل السلوك.

وكان إنزال هذا النص مع أوائل العهد المدني.


وكان قد أنزل عليه في العهد المكي قوله  هذه الآية مكية لكنها موضوعة في سورة هي من أواخر التنزيل المدني إذ لم ينزل بعد التوبة من السور إلا سورة (النصر).   في سورة (التوبة 9):

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128)) .

فوصفه الله في هذه الآية بأنه رؤوف رحيم بالمؤمنين خاصة.

فالنص الذي في سورة (آل عمران) فيه ثناء وتربية، وهذا النص السابق نزولًا فيه ثناء عظيم، إذ جاء فيه استخدام صيغ المبالغة: (رؤوف – رحيم).

والرأفة كالرحمة إلا أنها أرق وقيل: هي أشد من المرحمة.

ولنبدأ بتدبر النص الثاني الذي في (التوبة) لأنه يدل على ما وصل إليه الرسول في معارج الارتقاء الخلقي.

فهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، على أنه صلوات الله عليه ذو رحمة للناس عامة، إلا أنه بالنسبة إلى المؤمنين خاصة رؤوف رحيم بنسبة عالية جدًّا، فرأفته بهم ورحمته لهم عظيمتان، لذلك جاء التعبير بالصيغة الملائمة لواقع وصف الرأفة والرحمة في قلبه ونفسه.

ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين كان من مظاهر ذلك وصفان:

الأول
: ما جاء في قوله تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ ).

الثاني:
ما جاء في قوله تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) .

عزيزٌ عليه ما عنتم: العزيز في اللغة هو القوي ذو الغلبة، تقول العرب في أمثالها: "من عز بز" أي من غلب سلب، بمعنى غنم الأمتعة والسلاح والثياب. والعنت في اللغة المشقة الشديدة والهلاك والضرر والأذى، والمعنت: هو كل أمرٍ فيه مشقة شديدة، أو يفضي إلى هلاك أو ضرر أو أذى.

فمعنى (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ) غالبٌ عليه مشقتكم الشديدة وهلاككم وضرركم وأذاكم، أي غالبٌ على صبره ذلك، ولا يكون غالبًا على صبره إلا مما في قلبه نحوكم من رأفة زائدة، ورحمة زائدة، وذلك لأن الألم الذي ينزل به حينما يراكم في عنت أقوى من قوة احتمال صبره، فهو يغلبه.

حريص عليكم: الحرص في اللغة شدة إرادة الشيء، والمبالغة في الاستمساك به وصيانته وابتغاء النفع والخير له. والعرب تقول: أبوك حريص عليك، أي حريص على نفعك ممعن في ابتغاء الخير لك، مبالغ في الرغبة بصيانتك من كل ما يؤذيك.

فكون الرسول حريصًا على المؤمنين يدل على أنه شديد إرادة النفع وابتغاء الخير لهم، شديد الاستمساك بهم من أجل سعادتهم، وصيانتهم من كل ما يصرفهم عن طريق الجنة، ومن كل ما يؤذيهم ويضرهم في دنياهم وآخرتهم.

وجاء ذكر هذين الوصفين توطئة لتحليته بالدرتين الخلقيتين العظيمتين، هما أنه (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) .

وحين نتأمل في ظواهر خلق الرأفة والرحمة يتبين لنا أن معظم الفضائل التي تتعدى آثارها النافعة للآخرين، ترجع إلى هذا الخلق، فهي إما فروع له، أو مدفوعة من قبله، أو موجهة منه.

فمن هذا الخلق قد يكون العفو والصفح، ومنه قد تكون المعونة، ومنه قد يكون العطاء، ومنه قد يكون التكريم ولين الجانب، ومنه قد تكون المشاركة الوجدانية في الآلام والمشقات، ومنه قد يكون الحرص على جلب المنافع والخيرات للآخرين، ودفع المضار والشرور عنهم، إلى غير ذلك من ظواهر خلقية، فهو جذر تتفرع عنه فضائل خلقية كثيرة، وتتوجه به فضائل سلوكية كثيرة.

لذلك كان عزيزًا عليه صلى الله عليه وسلم غالبًا لقوة احتماله أن يصيب المسلمين عنتٌ ومشقة في أي أمرٍ من أمورهم؛ لأنه برأفته ورحمته يشاركون فيما يشعرون به، فيؤلمه ما يعنتهم. ولذلك أيضًا كان حريصًا على جلب كل خير لهم ودفع كل ضر عنهم؛ لأنه برأفته ورحمته يود لهم ذلك ودًا مقرونًا بإلحاح من الإرادة الجازمة، التي تجعله حريصًا عليهم، أي حريصًا على خيرهم، ونفعهم وسعادتهم.

وبسبب ما جعل الله في قلبه من رحمة، كان صلوات الله عليه لين الجانب محببًا، مالكًا قلوب أتباعه، وهذا ما وصفه الله به بقوله في سورة (آل عمران 3):

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)) .

فالرحمة من أخلاق الرسول صلوات الله عليه، وهي خلق ذو جذور عميقة في النفس، ومحلها القلب، ومن آثارها في السلوك الظاهر لين الجانب للناس. ونقيضها غلظ القلب وقساوته، ومن مظاهر هذا النقيض الخشونة في معاملة الناس والسلوك الفظ.

والرحمة خلق مؤلف محبب، ونقيضها خلق منفر مثير للكراهية، فمن آثار الرحمة التأليف، ومن آثار نقيضها التنفير.

وهذا ما دل عليه التقابل في الآية بين طرفين "الأول" الرحمة، وبعض ظواهرها، وتأليف القلوب الذي هو من آثارها ولم يصرح به اكتفاء بذكر ما يقابله، "والثاني" غلظ القلب، وبعض ظواهره، وتنفير القلوب الذي هو من آثاره. ونضع هذا التقابل في الموازنة التالية:

1- ... – فبما رحمة من الله – لنت لهم (أي فاجتمعوا عليك).

2- ولو كنت فظًا – غليظ القلب - ... لانفضوا من حولك.

فجاءت مقابلة الرحمة بغلظ القلب، فدلت على أن الرحمة خلق في القلب.

وجاءت مقابلة اللين في المعاملة بالفظاظة في المعاملة مع التغيير في الترتيب.

وجاءت مقابلة ائتلاف القلوب عليه بسبب رحمته ولينه لهم، بانفضاض الناس عن غليظ القلب فظ المعاملة، ولكن اكتفى النص هنا بذكر أحد المتقابلين؛ لأن الآخر يدل عليه.

ولما كانت الرحمة فضيلة خلقية كان غلظ القلب وقسوته رذيلة خلقية.

أما جاذبية هذا الخلق العظيم في الرسول فقد كانت جاذبية قوية جدًّا، جعلت القلوب تهفو إليه، وتؤمن به، وتتبعه، وتحبه، وبعض من آمن به قد تخطى عقبات كبرى في نفسه من أنانية وعصبية.

روى الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة عن علي رضي الله عنه، أن يهوديًّا يقال له: فلان حبر، كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم دنانير، فتقاضى  أي: طلب منه الدنانير التي له.   النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:

يا يهودي ما عندي ما أعطيك

قال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذًا أجلس معك

. فجلس معه، فصلى رسول الله الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهددونه ويتوعدونه، ففطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي يصنعون به، فقالوا: يا رسول الله، يهودي يحبسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

منعني ربي أن أظلم معاهدًا وغيره

فلما ترجل النهار  أي: امتد ووضح، وكان هذا في اليوم الثاني.   قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا متزي بالفحش ولا قول الخنا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك الله. وكان اليهودي كثير المال.

ودلت الآية على أن الرحمة من الأخلاق الفطرية التي يقذفها الله في قلوب عباده، ويقسم لهم منها بمقادير، إذ قال الله فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ) .

ويؤيد صحة هذا الفهم ما جاء في كثير من الأحاديث النبوية التي تحدثت عن الرحمة، فمنها الأحاديث التالية:

1- روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟.

2- وروى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال:

هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.

3- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.

ومن مظاهر رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، وكراهيته أن يتحملوا ما يعنتهم ويشق عليهم، نهيه لهم صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم، وهو أن يواصل الصائم الليل والنهار، ويتبع بذلك اليوم الثاني، وفي هذا روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل؟ قال:

إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني.

ومن مظاهر رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن الحارث بن ربعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي