موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(16- وإن كان كبر عليك إعراضهم)
الوصف
خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية
16- وإن كان كبر عليك إعراضهم
الباب الثالث: الرسول ذو الخلق العظيم وتربية القرآن له في مجال السلوك الخلقي >> الفصل الأول: خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية >>
16- وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء فتأتيهم بآية
ومما أدب الله به رسوله على خلق الصبر في مجال دعوته وقيامه بمهمات رسالته، التربية بالإقناع، وبالقدوة الحسنة.
وبعد ذلك وجه الله له تربية قائمة على افتراض وجود أمر نفسي غير واقع لدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه التربية تعتمد على عنصر التهديد بالتخلي عنه، إن كان إعراض المعرضين عنه أمرًا قد كبر على نفسه، إذ ليس من شأن حامل رسالة ربانية أن يكون لنفسه دخلٌ في أمر الرسالة، فهو رسول الله، ومبلغ عنه، فلا شأن لنفسه في الأمر. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، إلا أن تقصي الاحتمالات يستدعي ذكر الحالات النفسية التي قد يتعرض لها الإنسان بوجه عام، وإن كان الرسول مطهرًا منها.
وفي التأديب بهذه الوسائل قال الله في سورة (الأنعام 6):
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)) .
فبين الله لرسوله أنه عليم بما يقول المشركون في تكذيبه، وأنه يحزنه كلما سمع منهم تكذيبًا له أو رأى منهم إعراضًا عنه.
وإذ كان حزن الرسول مدفوعًا بدافع حرصه صلوات الله عليه على هدايتهم وسعادتهم، ورغبته بأن ينجح في رسالته التي اصطفاه الله لها، وتألمه من أن يتهم بالكذب وهو الصادق الأمين، كان لا بد من معالجة حالته النفسية هذه بالتربية الملائمة، وبمختلف الوسائل المؤثرة.
1- أما الإقناع فقد اشتمل النص هنا منه على بيان حقيقتين:
الحقيقة الأولى:
أن المشركين رفضوا ما جاء به الرسول جحودًا بآيات الله التي تشتمل على براهين أنها من عند الله حقًّا، وهم في قرارة أنفسهم يعلمون صدق الرسول فيما يبلغ عن ربه. وجحود العارف بصدق الخبر ليس من شأنه أن يحزن المخبر من جهة أنه صعب عليه أن يتهم بالكذب، فاتهامهم له بالكذب قولٌ بأفواههم لم تعتقده قلوبهم، فاحترامهم وتقديرهم لصدقه وأمانته ما نقص منه شيء في قرارة نفوسهم، بل قد زاد بالنبوة، لكنهم جحدوا بآيات الله البينات المشتملة على براهين صدق الرسول.
والجاحد هو المنكر بلسانه لهوىً في نفسه مع علمه بأن ما أنكره حقٌ، وهو بخلاف المكذب الذي يعتقد ما يقول، فهو بحاجة إلى مزيد من الآيات حتى يقتنع بصدق الخبر، فيؤمن به ولا يظنه كذبًا.
والإقناع بهذه الحقيقة هو ما اشتمل عليه قول الله تعالى في النص: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) .
وروى الترمذي عن علي، أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله تعالى فيهم: (إِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) .
الحقيقة الثانية:
أن رسالة الرسول رسالة تبليغ وليست رسالة تحويل أو إكراه للناس على الإيمان، نظرًا إلى أن الغاية الأساسية من الخلق الامتحان، والامتحان الصحيح يستلزم أن تكون إرادات من يمتحنون حرةً تختار بكامل حريتها طريق سعادتها أو طريق شقاوتها، فلا تكره من قبل المؤمنين على الإيمان، ولا تكره من قبل الطغاة أو البيئة الفاسدة على الكفر.
ولو كان الغرض التحويل لفعله الله بنفسه خلقًا بقضائه وقدره وأمره التكويني، فهو وحده القادر على ذلك، ولو شاء لفعله، ولسلب الناس إراداتهم الحرة، ولجعلهم مجبورين، ولجمعهم عندئذٍ على الهدى بأمره التكويني: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لكن هذا ينافي الغاية الأساسية من الخلق، وعندئذٍ فلا معنى للامتحان.
والإقناع بهذه الحقيقة قد اشتمل عليه قول الله تعالى في النص: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أي لو شاء تحويلهم إلى الهدى عن غير طريق إراداتهم الحرة واختيارهم الحر، لسلبهم إراداتهم واختيارهم، ولجعلهم مجبورين، ولجمعهم عندئذٍ على الهدى. ولكن كلمة الله نافذة في (ابتلائهم وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) .
2- وأما التربية بالقدوة الحسنة فقد جاءت في بيان حالة الرسل الكثيرين السابقين الذين كذبتهم أممهم وآذتهم، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله، وبعض أنباء هؤلاء المرسلين قد نزلت فيها نصوص قبل هذا النص من سورة الأنعام.
وفي التربية بهذه الوسيلة قال الله تعالى له في النص:
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ) .
3- أما التربية بالتهديد بالتخلي عنه وهي قائمة –كما سبق بيانه- على افتراض أمر غير واقع استدعى ذكره تقصي الاحتمالات، وهذا الأمر هو أن يكون قد كبر على نفس الرسول إعراض المعرضين عنه، فهو يحزن من أجل أن الأمر قد كبر على نفسه، ومع الإشارة بأن خلق الرسول العظيم يأبى وجود هذا الاحتمال، إذ جاء بعبارة التشكيك التي تشعر بعدم وجود الأمر في الواقع، وهي: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ) ؛ كان لا بد من توجيه التربية التي تثبت نفس الرسول على خلقه، وتعلم كل داع إلى الله من بعده ما يجب أن يتحلى به من خلق، فقال الله تعالى له: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي بآية خارقة تجعلهم يتبعونك ولا يعرضون عنك فافعل. ومعلوم أنه لن يستطيع أن يتخذ نفقًا في الأرض ولا سلمًا في السماء ليأتيهم بالخارقة التي تجعلهم يؤمنون إلا بتمكين الله له، فتوجيه مثل هذا القول فيه معنى التعجيز والتخلي.
وهذه الشدة في التربية حول أمر لم يحصل يقصد منها تربية الدعاة إلى الله ولو لم يكونوا رسلًا، ويقصد منها التحذير من أي ميل نفسي لدى الرسول قد تشتم منه رائحة أي هوى من أهواء النفوس مهما قل، إلا ابتغاء مرضاة الله، والعمل بما وجه له.