موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(14- من أوائل ما أدب الله به رسوله)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(14- من أوائل ما أدب الله به رسوله)
122 0

الوصف

                                                               خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية

                                                                       14- من أوائل ما أدب الله به رسوله
                                          الباب الثالث: الرسول ذو الخلق العظيم وتربية القرآن له في مجال السلوك الخلقي >> الفصل الأول: خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية >>

14- من أوائل ما أدب الله به رسوله ما جاء في سورتي (الضحى) و(الشرح)

(أ) فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث:

اشتملت سورة (الضحى) على ألوانٍ من تربية الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مع أوائل الرسالة.

أبطأ الوحي على الرسول لتربيته، ولتشويقه، فمن ذاق طعم الصلة بالوحي وما يشاهد معه من أمور عالم الغيب اشتد عليه انقطاع ذلك عنه. وقال المشركون: ودع محمدًا ربه، وصعب الأمر على الرسول، وربما حدثته نفسه أنه قصر في شيء، فأثبت بما حصل له أنه قد حمل مهمة الرسالة حقًّا، واضطلع بمسؤولياتها وأحبها، وأعد نفسه لتحمل كل مشقاتها.

فاقتضى الأمر أن ينزل الله عليه من عذب الخطاب، وحلو المناجاة والتكريم، ما يمسح عن نفسه وحشة الانقطاع.

فأقسم له بقمتي ما يشاهد في الأرض من ضياء حلو وظلمة ساكنة، بالضحى والليل إذا سجى، أنه ما ودعه نهائيًّا ولا هجره هجرًا مؤقتًا، فقال له:

(وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)) .

قلى: في اللغة بمعنى أبغض وبمعنى هجر، وأوثر هنا المعنى الثاني، وجل أهل التفسير على المعنى الأول.

ثم ربط همة قلبه ونفسه بالآخرة وبما فيها من خير عظيم، ووعده بأنه سوف يعطيه فيها حتى يرضى رضًا تامًا، فقال له:

(وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)) .

ثم ذكره الله بنعم ثلاث أنعم بها عليه، ليقابلها من جهته بالشكر الملائم لها، فقال له:

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)) .

هكذا على طريقة الاستفهام التقريري، وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم عليه: بلى.

لقد هيأ الله له من يؤويه وهو يتيم، وهذا من عناية الله به، وشكر الله على هذه النعمة يظهر تمامًا في أن يرعى اليتامى ويرحمهم ولا يقهر أحدًا منهم، فقال له في التأديب:

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9)) .

ونشأ فقيرًا لا مال له، فهيأ الله رزقًا أغناه به، وشكر الله على هذه النعمة يظهر تمامًا في أن يعطي السائل ذا الحاجة إن وجد ما يعطيه، ولا ينهره إن لم يجد، بل يقول له قولًا معروفًا، فقال له في التأديب:

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (10)) .

ونشأ في أمة أمية، بعيدة عن مراكز العلم والحضارة ضالة عن سبيل سعادتها، فلم يكتسب منها علمًا ذا شأن، فضلًا عن علم يؤهله لمجد هداية الناس أجمعين، وإرشادهم إلى سبيل سعادتهم، ويظل الجاهل ضالًا عن الطريق، حتى يتعلم فيهتدي إليه. فاصطفاه الله بالنبوة وعلمه وهداه، ثم اصطفاه بالرسالة فكلفه تبليغ الناس وتعليمهم، وهذه أعظم نعمة أنعم بها عليه، وشكر الله على هذه النعمة يكون بأن يحدث الناس بما علمه الله من علوم دينية أوحى بها إليه، وأنعم بها عليه، ليهدي الناس كما هداه الله، فقال له في التأديب:

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)) .

وقد تخلق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أدبه الله به، فكان ملجأ اليتامى والسائلين وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

(ب) فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب:

ومما أدب الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما أمره به وبينه له في سورة (الشرح 94) إذ قال له:

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)) .

وقد اشتمل هذا النص على ثلاثة عناصر تربوية أخلاقية.

العنصر الأول:
تربية نفسه على الأمل بالمستقبل، وتلقي الأحداث الحاضرة المؤلمة بالرضا والتسليم، وبنفس منشرحة مشحونة بالأمل بما سيأتي، صابرة على العسر الواقع، فالنفس المشحونة بأمل اليسر القادم، يضمر لديها ألم العسر القائم، ومنتظر الفجر القريب لا يشعر بظلمة الليل القاتم.

وهذه التربية تضمنها الإقناع المؤكد بأن مع العسر يسرًا، وهذا الإقناع اقترن بدليل مما سبق في أحداث الماضي، وبتأكيد بياني:

أما الدليل مما سبق في أحداث الماضي فهو ما جاء بيانه في صدر السورة، تمهيدًا لتقرير قاعدة: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا من قواعد سنن الله في ابتلاء خلقه.

فقد سبق أن تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته لضيق في صدره، فشرح الله صدره بعد ذلك، فهذا عسر جاء بعده يسر.

وسبق أن شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يحمل أثقالًا في حياته شاقة عليه، فوضع الله عنه هذه الأحمال، فرماها الرسول عن نفسه، إذ هيأ الله له من يحملها عنه، أو طرحها الرسول عن ظهره ثقة بكفالة ربه له، وهذا عسر جاء بعده يسر.

وسبق أن كاد الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه خامل الذكر، غير معدود بين العظماء في قومه، فرفع الله ذكره، إذ جعله رسولًا، والرسالة أعظم مكانة يمنحها الله لإنسان. واستمر عطاء الله له في رفع ذكره، حتى اقترن اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم باسم الله في الشهادتين، وفي الأذان، وحتى صارت الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة واجبة على كل مسلم، فإن كان خمول الذكر حالة عسر، فقد جاء بعده يسر عظيم، برفع ذكره إلى أرفع ما يمكن ذكر لإنسان.

كل هذا قد جاء التمهيد به في قول الله تعالى له:

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)) .

وأما الإقناع بالتأكيد البياني، فهو ما جاء بيانه في القاعدة التي قررها الله له:

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)) .

فقد جاءت هذه القاعدة مؤكدة تأكيدًا بيانيًّا من عدة وجوه:

الأول:
التأكيد بأداة التأكيد (إن).

الثاني:
التأكيد بالجملة الاسمية كما يقول علماء البلاغة.

الثالث:
التأكيد بتكرير القاعدة مرتين، وجعل كل منهما آية مستقلة.

الرابع:
تعريف العسر وتنكير اليسر، قالوا: والمعرف إذا أعيد كان عين الأول، أما النكرة إذا أعيدت فهي غير الأول، ومن هذا قالوا: عسر بين يسرين، وفي هذا الكلام نظر عند المحققين من علماء البلاغة.

إلا أن التنكير في اليسر قد يفيد التعظيم والتكثير، فهذا من دلالات التنكير بلاغيًّا.

العنصر الثاني:
تربية الرسول صلى الله عليه وسلم على علو الهمة، والاشتغال الدائم بجد في كل نافع مفيد يرضي الله تعالى، سواء أكان ذلك في الدعوة إلى الله، أو الجهاد في سبيله، أو القيام بالعبادات الخاصة، أو في غير ذلك من كل خير. والغرض أن لا يضيع الرسول صلى الله عليه وسلم لحظة من لحظات عمره من دون عمل نافع مفيد إذا كان يستطيع فيها أن يعمل شيئًا يقربه إلى الله تعالى، مما يرضيه سبحانه من الأعمال، ولو كان فيه نصب وتعب على الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي تربية الله لرسوله على هذا الخلق قال له: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي فإذا فرغت من عمل سابق، فقم بعمل جديد تجد فيه نصبًا، والنصب هو التعب، وهذا تكليف له بأن لا يركن إلى الراحة والدعة، إذ عليه أن يستغل كل ما يستطيع استغلاله من عمره في عمل نافع يرضي الله، من الأعمال التي أمره الله بأن يحمل أعباءها مما يتعلق بمهمات الرسالة، أو بواجباته الشخصية.

العنصر الثالث:
تربية نفس الرسول صلى الله عليه وسلم على العفة عما في أيدي الناس، وعدم تعلقها بشيء من ذلك، وربطها بسؤال الله وحده، في كل رغيبة يرغبها من مطالب دنياه وآخرته، وفي تربية الله لرسوله على هذا الخلق قال له: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ؛ أي فاسأل الله وحده بضراعة وتذلل كل ما تحب من أمور دنياك وآخرتك، ولا تسأل غيره.

يقال لغة: رغب إلى الله أي سأل الله بضراعة، والرغبة الضراعة والمسألة.

وفي حديث الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه السلام جاء:

فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله

أي فيتضرعون إلى الله ويسألونه.

وبهذا الأدب الرباني أدب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عباس قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال:

يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.