موسوعةالأخلاق الإسلامية-الأمانة(ودائع الأسرار والأحاديث)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الأمانة(ودائع الأسرار والأحاديث)
231 0

الوصف

                                                                الأمانة

                                                      ودائع الأسرار والأحاديث
                           الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 6- الأمانة >>

ودائع الأسرار والأحاديث:

من حق من استأمنك على سره أن تحفظه له فلا تفشيه، وحديثه لك وسره عندك أمانة، والأمانة يجب حفظها، وعدم تعريضها للسلب أو النهب أو السرقة، وإفشاء السر خيانة لمن استودعه.

روى الترمذي وأبو داود عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة.

أي: ما حدث به مما يسوؤه إعلانه هو أمانة استودعها سر من ألقى إليه الحديث وهذه الأمانة يجب حفظها وعدم إفشائها، ولذلك كان من المعروف عند الناس أنهم إذا أرادوا أن يوصوا جلساءهم بحفظ ما يجري في مجالسهم وعدم إفشائه يقولون: المجالس بالأمانات، وهذا القول مأخوذ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مالٍ بغير حق.

المجالس بالأمانة: أي المجالس تعقد بالأمانة على ما يجري فيها، أو المجالس ملزمة للمشتركين فيها بالأمانة، أو نحو ذلك.

وإذ يقرر الرسول صلوات الله عليه أن المجالس بالأمانة يستثني منها ثلاثة مجالس:

المجلس الأول:
مجلس سفك فيه دم حرام، فهذا يجب الشهادة به، ولا يجوز كتمه، بل كتمه خيانة عامة، وخيانة لأولياء القتيل، وخيانة لحق الله.

ومجلس من هذا النوع لا حرمة له، ولا أمانة له؛ لأن أصحابه قد خانوا الله فيما استأمنهم عليه، وخانوا أخاهم فاعتدوا على حياته، ولم يكونوا أمناء عليها، فكيف يكون لهم حق في حفظ سر مجلسهم.

المجلس الثاني:
مجلس كان فيه اعتداء على عرضٍ حرام، ومجلس من هذا النوع لا حرمة له، ولا أمانة له، بشرط أن يتوافر للشاهد به نصاب الشهود الأربعة، لئلا يدان بالقذف، فحق الله هو الأحق بالأمانة عليه وأدائه كما أمر الله.

المجلس الثالث:
مجلس اعتدي فيه على مالٍ بغير حق، فهذا مجلس لا حرمة له أيضًا ولا أمانة له.

ونستطيع أن نقيس على هذه المجالس ما كان شبيهًا بها، فمن ذلك المجالس التي تدبر فيها المؤامرات ضد المسلمين، فهذه مجالس لا حرمة لها، بل التستر عليها خيانة عظمى للأمانة التي استؤمن عليها كل فرد من أفراد المسلمين، وهي أن يكون حافظًا راعيًا لجماعة المسلمين، أمينًا على مصالحهم، وعينًا يقظة ساهرة تراقب مكايد أعدائهم، ومؤامرات الذين يتآمرون ضدهم، ضد دينهم، أو ضد جماعتهم، أو ضد قادتهم الصالحين.

فإذا استثنينا هذه المجالس استطعنا أن ندمغ من يفشي أسرار المجالس التي لا شر فيها ولا إثم بالخيانة، وحينما يكون إفشاؤها يفضي إلى أضرار جسيمة فإن من يفشيها يتحمل جريرة كل الأضرار التي تستتبع إفشاءها، لا سيما إذا كانت أسرارًا ترتبط بها مصالح عامة المسلمين، وكان إفشاؤها يضر بهذه المصالح العامة، وعندئذٍ تكون خيانة عظمى، لا خيانة فردية جزئية. ولذلك لما شعر أبو لبابة بأن خيانته قد كانت من قبيل الخيانة العظمى شد نفسه إلى سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموت أو يتوب الله علي.

وقصة أبي لبابة في خيانته، أنه لما خان يهود بني قريظة رسول الله والمسلمين في غزوة الأحزاب، وتواطأوا مع المشركين على أن ينقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وينقضوا على المسلمين من وراء ظهورهم من داخل المدينة، وأفسد الله مكيدتهم، ورد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصر يهود بني قريظة في حصونهم خمسًا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر لنستشيره في أمرنا، وكان مناصحًا لهم قبل الإسلام. فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال أبو لبابة بلسانه: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، كناية عن الذبح، فخان بذلك سر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانته التي استؤمن عليها، رعاية لصداقته لهم في الجاهلية، وكانت هذه خيانة منه للمسلمين، فالموقف موقف حرب، والأمر خطير، ولم يكن ذلك عن نفاق لديه، فقد قال أبو لبابة عن نفسه: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله.

ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الذي كان منه، حتى أتى المسجد فشد نفسه إلى عمود من أعمدته، وقال: والله لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت. وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدًا، ولا يُرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدًا. وطالت غيبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستبطأه، فأبلغه المسلمون خبره، فقال صلوات الله عليه: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

ولبث على هذه الحالة ست أو تسع ليالٍ تأتيه امرأته في كل وقت صلاة، فتحل قيده فيصلي، ثم يعود فيرتبط بالجذع، حتى تاب الله عليه، وأنزل فيه قوله في سورة (التوبة 9):

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)) .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة، والوقت وقت السحر، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أفلا أبشره؟ قال:

بلى إن شئت

، فقامت على باب حجرتها فقالت: يا أبا لبابة أبشر، فقد تاب الله عليك، فثار المسلمون إليه ليطلقوه، فأبى إلا أن يطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الصبح أطلقه.

فقال: يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال:

يجزيك الثلث أن تصدق به.

وكان الله عز وجل قد أنزل النهي عن الخيانة فقال تعالى في سورة (الأنفال 8):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)) .