مفاتيح التعامل مع القرآن- من مفاتيح التعامل مع القرآن ( ٢٧ - جنى الثمار العملية للتعامل مع القرآن)

مفاتيح التعامل مع القرآن- من مفاتيح التعامل مع القرآن ( ٢٧ - جنى الثمار العملية للتعامل مع القرآن)

الوصف

                                                     من مفاتيح التعامل مع القرآن

                                              ٢٧ - جنى الثمار العملية للتعامل مع القرآن

لا بدّ من الحضور الفاعل الحى المؤثر أثناء تلاوة القرآن وتدبره والتعامل معه بكافة مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، واستخدام كل أجهزة كيانه الإنسانى .. فلا يكون هدف القارئ من نظراته فى القرآن مجرد الأجر والثواب فهذا وارد وسيحصل عليه بإذن الله .. كما لا يكون هدفه «تثقيف» نفسه بثقافة قرآنية شاملة، وحشو ذهنه المجرد وعقله النظرى بألوان شيقة من المعرفة والثقافة، وزيادة رصيده من الثقافات والعلوم والمعارف .. وإن الوقوف عند الثقافة وحدها لا يولد عملا ولا التزاما ولا سلوكا سليما .. كل ما فى الأمر أنه يملأ عقله بهذه المعلومات، فتتحول إلى قضايا ومعلومات وثقافات نظرية، وتوضع هناك فى «خانة» المنطق الذهنى النظرى المجرد، وتتجمد فيه إلى أن تضعف فتزول وتتلاشى، أو تبقى مجمدة عاجزة عن الوصول إلى منافذ التوجيه والقيادة والتربية .. فترى هذا الإنسان يردد ما فى عقله من معلومات، وما فى ذهنه من ثقافات، ويتحدث عنها- بلباقة وفصاحة- ولكن أين هو فى شخصيته واستقامته مما يقول؟ وأين هو فى مسلكياته وحياته مما يبشر به؟ وأين هو فى ارتباطه وصلته بمن حوله مما يتحدث عنه؟ 

على القارئ أن يتلقى إيحاءات القرآن بمشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، أن يتلقاه معلومات وثقافات، وأن يتلقاه أفكارا وتصورات، وأن يتلقاه حقائق وبدهيات، وقيما حية، وتوجيهات حياتية، ومبادئ معاشة، وأوامر عملية ميدانية، ودليلا عمليا لحياته فى يومه ونهاره .. عليه أن يتلقاه بعقله وذهنه وخياله، وأن يتلقاه بفكره ووعيه وإدراكه، وأن يتلقاه بقلبه وروحه ووجدانه وضميره، وأن يتلقاه بشعوره وإحساسه وهمته وطاقته، وأن يصل بين كل الأجهزة فى كيانه، وأن ينسق بين ما تلقاه كل منها، وأن يجمع هذه الحصيلة مجتمعة، وأن يربط بينها بخيوط متينة دقيقة، وأن يحولها إلى برنامج يومى، وسلوك عملى، وحقائق معاشة، وإيمان قرآنى حى فاعل مؤثر .. وأن يقتدى فى ذلك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها- كان خلقه القرآن، وأن يقتدى بأصحابه الكرام رضوان الله عليهم الذين كانوا يتلقون القرآن «تلقيا للتنفيذ» لينفذوه فور سماعه، وينظرون له نظرة الجندى فى الميدان إلى «الأمر اليومى» الصادر إليه، ليعمل به فور تلقيه. (كما يقول سيد قطب فى معالم فى الطريق: ١٧ - ٢٠).

لذلك على القارئ أن يتمتع أثناء النظر فى القرآن بحضور كامل فاعل، وأن لا يشغله عن القرآن- وهو يتلوه- شاغل، أو يصرفه عنه صارف، أو يحول بينه وبين إيحاءاته وأنواره حجاب أو مانع، وأن يجمع على فهمه نفسه وهمته وفكره، ووجدانه وخياله وشعوره، وقلبه وعقله ووعيه .. على القارئ أن لا يخلط بين الوسائل والغايات، وأن لا يجعل من الوسائل غايات، فكم سيخسر لو فعل ذلك! إن كل ما يستخدمه أثناء التلاوة لا يعدو أن يكون وسائل توصله إلى غاية واحدة محددة .. التلاوة، والتدبر، والنظر، وما يحصل عليه من حقائق ولطائف ومعلومات وتقريرات، وما ينقدح فى قلبه من أفهام ومبادئ وآراء، والاطلاع على التفاسير، والحياة مع القرآن لحظات أو ساعات، هذه كلها لا يجوز أن تكون إلّا وسائل لغاية، ولا يمكن أن تكون بحد ذاتها غايات .. لأنه إن وقف عندها واكتفى بتحقيقها وتحصيلها، فلن يحيا بالقرآن ولن يعيش مع القرآن ولن يدرك كيفية التعامل مع القرآن! .. ونحن نعلم أن من المسلمين من يكتفى بها، ويقعد عندها، ويجعلها هى الهدف المرجو والغاية المطلوبة، لكن هؤلاء لم يفهموا القرآن، ولم يعيشوا به!!.

المؤمن عند ما يصاحب القرآن فى رحلة شيقة ممتعة لا بد أن ينظر فى ما حصله فيها، ولا بد أن يقوّم هذه الرحلة، ويعرف كم ربح فيها، وكم استفاد منها، وكم جنى من ثمار مباركة دانية .. إن الثمار التى يرجوها لن تكون إلّا فى تحقيق الغاية التى حددها وطلبها .. وهو عند ما يكون قارئا سيسأل القرآن عن غايته، وعن غاية المؤمن من تلاوته، وسيجد فى القرآن الجواب الواضح البين، وقد سبق أن تحدثنا عن غاية القرآن فى الحياة عند حديثنا عن «الالتفات إلى الأهداف الأساسية للقرآن» و «ملاحظة المهمة العملية الحركية للقرآن» وغيرهما من مفاتيح التعامل مع القرآن .

يحدد القرآن للمؤمن المتدبر الغاية من قراءته فيه وتعامله معه وتدبره له .. قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٧)) (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)) [الزمر: ٢٢ - ٢٣]

ان الغاية المحددة هنا هى «الهدى» .. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء .. باعتبارها وردت خاتمة للآيتين اللتين تحددان كيفية تلاوة القرآن، وتصفان أحوال الذين يقومون بهما، وتسجل مظاهر التأثر والتغير والانفعال عليهم .. ثم تبين الثمرة لهذه التلاوة، وتحدد الغاية منها، وتدعو المؤمن إلى أن يلحظها، ويسعى إلى تحقيقها، ويتشوق إلى تلك الثمرة، ويحرص على أن يجنيها .. إنها «الهدى»، الهدى القرآنى .. هدى الله يهدى به من يشاء .. هدى مطلق شامل عام للفرد والمجتمع والأمة ..