كتاب القرآن ونقض مطاعن الرهبان-الفصل العاشر نقض المطاعن الموجهة إلى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم (الزعم بأن القرآن وحي من الشيطان)

الوصف
الفصل العاشر نقض المطاعن الموجهة إلى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم
(الزعم بأن القرآن وحي من الشيطان)
ذَكَرَ الفادي المجرمُ تحتَ عنوان: " وَحْيٌ من الشيطان " قولَ الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)) .
وعَلَّقَ على الآيةِ تَعْليقاً خَبيثاً، فقال: " قالَ المفَسّرون: إِنَ محمداً لما كانَ في مجلسِ قريش أَنزلَ اللهُ عليه سورةَ النجم، فقرأَها، حتى بَلَغَ قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠)) .
فأَلْقى الشيطانُ على لسانِه ما كانَ يُحَدِّثُ به نفسَه ويَتَمَنّاه، وهو: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى "، فلما سمعَتْ قريش فَرِحوا به، ومضى محمد في قراءتِه، فقرأَ السورةَ كلَّها، وسجدَ في آخرِها، وسجدَ المسلمون بسجوده، كما سجدَ جميعُ المشركين، وقالوا: لقد ذَكَرَ محمد آلهتَنا بأَحسنِ الذكر، وقد عَرَفْنا أَنَّ اللهَ يُحيي ويُميت، ولكنَّ آلهَتنا تشفعُ لنا عندَه ".
وبعدَما أَوردَ هذه الروايةَ طَرَحَ سؤالَه وهُجومَه وبذاءَتَه، فقال: " ونحنُ نسأل: كيفَ يتنكَّرُ محمد لوحدانيةِ الله، ويمدحُ آلهةَ قريش، ليتقَرَّبَ إِليهم، ويفوزَ بالرياسةِ عليهم بالأَقوالِ الشيطانية؟ وما الفرقُ بين النبيِّ الكاذبِ والنبيِّ الصادق، إِذا كانَ الشيطانُ يَنطقُ على لسانِ كليهما؟! "
الخُرافَةُ التي ذَكرَها الفادي الجاهلُ معروفة باسم " قصة الغرانيق ". والغَرانيقُ جَمعُ " غُرْنوق "، وهو طَيْرُ الماء.
وقد ذَكَرَ تلك الخرافةَ بعضُ كتبِ التاريخِ والتفسيرِ والحديث، وردَّدَها عنهم الذين لا يتَحرونَ الدقة والصحةَ فيما يَنْقُلون، وتلَقَّفَها الفادي الجاهل.
وخُلاصَةُ تلك الخرافةِ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَوْماً عند الكعبة، وحولَه بعضُ المسلمين والكافرين، فتَلا سورة النجم، وهم يَستَمعونَ إِليه، حتى وَصَلَ إِلى قولِه تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (٢٠)) .
فَأَدخلَ الشيطانُ في قراءَتِه، وصارَ يتكلمُ بصوتِه، وأدرجَ فيه جملتَيْن، سَمعوها بصوتٍ هو صوتُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مع أَنه صوتُ الشيطان، والجملتان هما: " تلكَ الغرانيقُ العُلى، وإِنَّ شفاعتَهنَّ لترتُجى " وواصَلَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - قراءَتَه، وسطَ ذُهولِ المسلِمين، وفرح المشركين، الذين قالوا: الْتَقى محمد مَعَنا، ومَدَحَ آلهتَنا.
ومعلومٌ أَنَّ في آخرِ سورةِ النجمِ سَجْدَة، فلما فرغَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من قراءَتِه سَجَدَ، وسَجَدَ معه المسلمونَ والمشركون.
ولما علمَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - بما أَجرى الشيطانُ على لسانهِ حَزِنَ وتَألَّم، فأَمره اللهُ بحذْفِ جملتي الشيطانِ من سورةِ النجم: " تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ".
وأَنزلَ آيةً من سورة الحج تتحدَّثُ عن ذلك: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)) .
وهذه الخرافةُ مكذوبة، لم تَردْ في روايةٍ صحيحة. وإِنما هي من وضع الزنادقة، والكَذَّابين والوضّاعين، وقد رَدَّها المفَسِّرون والمحَدِّثونَ والمؤرِّخونَ، وأَلَّفَ بعضُهم كتُباً في رَدِّها، منهم الشيخُ محمد ناصر الدين الأَلباني، في كتابه: " نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق ".
هذه الخرافةُ مردودةٌ عَقْلاً أَيضاً، إِذْ لا يُعقلُ أَنْ يَأَذنَ اللهُ للشيطانِ أَن يتقمَّصَ صوتَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَنْ يُؤَلِّفَ كلاماً من عندِه يُدْخِلُه على القرآن، وهو يتعارضُ مع القرآن، فالقرآنُ يَذُمُّ اللاتَ والعُزّى، والشيطانُ يمدَحُهما، ويَجعلُ لهما شفاعةً عند الله! وأَينَ حِفْظُ القرآن؟ وأَينَ عِصمةُ اللهِ لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -؟!.
أَما الفادي المفترِي الخبيثُ فقد طارَ فَرَحاً بالخرافة، وصَدَّقَها، واعتمدَها في التشكيكِ بالقرآنِ وإِدانةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال كلاماً فاجراً: " كيف يتنكَّرُ محمدٌ لوحدانيةِ الله، ويَمدحُ آلهةَ قُريش، ليتقربَ إليهم، ويَفوزَ بالرياسةِ عليهم بالأَقوالِ الشيطانية؟ وما الفرق بين النبيِّ الصادِقِ والنبيِّ الكاذبِ إِذا كان الشيطانُ ينطقُ على لسانِ كِلَيْهما؟ ".
أَمّا آيةُ سورة الحج التي زَعَمَ الفادي أنها جاءَتْ لمسْحِ ما أَلْقاهُ الشيطانُ على القرآن، فإنها تتحدَّثُ عن أُمنياتِ الأَنبياء إِيمانَ أَقوامِهم، ومحاولاتِ الشيطان تَيْئيسَهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ..) .
يُخبرُ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ كُل رسول ونبي قبلَه كان يتمنّى ويَرجو ويأمَلُ أَنْ يؤمنَ به قومُه ويُصَدِّقوه، وكان يَبذلُ جهدَه في دعوتِهم، ولكنَّ الشيطانَ كان يُحاولُ تيئيسَه، ولذلك كان يُلقي في أُمنيتهِ، ويُريه أَنها مستحيلة، وأَنَّ قومَه لن يؤمنوا به، فلا يُتْعِبُ نفسَه معهم.
وكان اللهُ يَتداركُ رسولَه برحمته، ويَمُنُّ عليه بالأَمَل، وبذلك كان يَنسخُ ما يلقي الشيطانُ من وساوس، ويُحكمُ آياتِه، ويُبقي الرسولَ على ثقتِه وأَملِه وجهودِه في الدعوة هذا هو الراجحُ في معنى الآية، والله أعلم.