تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)
الوصف
نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم
(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)
قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
يبالغ بعض المسلمين بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديره، فيخرج بذلك عن المقدار المأمون الوسط المعتدل إلى الغلو والمبالغة، ويشتط في غلوه ومبالغته، وُيقبل على القرآن علّه يجد فيه آيةً تشهد له.
يقول بعض هؤلاء الغلاة المبالغين في أن كل آباء الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا مؤمنين باللهِ موحدين له، لم يعرفوا الكفر ولا الشرك، منذ والده عبد الله وحتى آدم عليه السلام.
وكأنهم يعتبرون القول بهذا من مظاهر وعلامات محبة الرسول وتقديره عليه السلام، وكأنهم يعتبرون كفر أحد آبائه أو أجداده يقدح في عصمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويوصِل له ضرراً وأذى، لهذا يريدون إثبات العصمة له، فيزعمون إيمان كل آبائه وأجداده.
وحتى يكون كلام هؤلاء مقبولاً لدى الناس يعتمدون على آية من القرآن، وهي قول الله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}. ويزعمون أن معناها هو: تقلُّب الرسول عليه الصلاة والسلام في الرجال المؤمنين منذ آدم عليه السلام وحتى والده عبد الله، وتنقُّله في أصلابهم واحداً واحداً، وإنّ هؤلاء كلهم كانوا ساجدين لله وحده، عابدين وموحدين له. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وهذا القول ليس صحيحاً، وهذا الفهم للآية محرِّف لمعناها.
إن الآيات التي أوردناها تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم. وتأمره بالتوكل على ربه العزيز الرحيم، وتشير إلى فضل الله عليه، وحفظه ورعايته له، وكونه معه في كل حالاته، ينصره ويعينه. وتشير تلك الآيات إلى حالتين من حالات الرسول عليه الصلاة والسلام، وتجعل هاتين الحالتين خاضعتين لرؤية الله له ورعايته لأموره، حالة الرسول عليه السلام وهو وحده خالياً، وحالته وهو مع المسلمين واقفاً بينهم.
تقول له: إن الله يراك حين تقوم لتصلي وحدك، بحيث لا يراك أحدٌ من الناس، وغالباً ما يكون هذا في صلاة التهجد في الليل.كما أن الله يراك حين تكون مع أصحابك المسلمين، يراك -ويراهم- وأنتم تصلون لله وتسجدون له، يراك وأنت تتقلب بينهم ومعهم ساجداً لربك، وهم ساجدون حولك. يراك حين تقوم تصلي وحدك، ويراك حين تصلي مع أصحابك، وتسجد معهم، وهم يسجدون.
وهذا ما فهمه من الآيات علماء السلف من الصحابة والتابعين: قال ابن عباس: يراك حين تقوم للصلاة.
وقال عكرمة: يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين. قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه.
وقال قتادة: يراك حين تقوم. يراك قائماً وقاعداً وعلى حالاتك.وتقلبك في الساجدين: في الصلاة. يراك وحدك ويراك مع الجميع.
وقال قتادة أيضاً: في الساجدين: في المصلين. وقال ابن عباس: في الساجدين: يراك وأنت مع المصلين الساجدين، تقوم وتقعد معهم.
ثم إن القول بإيمان آباء وأجداد الرسول صلى الله عليه وسلم جميعاً، يتعارض مع الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة ففي صريح القرآن أن أحد آباء الرسول عليه الصلاة والسلام كان كافراً باللهِ يعبد الأصنام. إنه آزر والد إبراهيم الخليل عليه السلام.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}.
وهذه آياتٌ صريحة، لا تقبل تأويلاً ولا تحريفاً، تُقرر أن آزر هو والد إبراهيم عليه السلام، أنه كان يتخذ الأصنام آلهة، وآزر هو أحد أجداد الرسول عليه الصلاة والسلام. وبهذا نعلم أن الرسول عليه السلام لم يتنقل في أصلاب الساجدين المؤمنين الموحدين لله، لأن أجداده لم يكونوا كلهم هكذا.
هذا وقد وردت أحاديثٌ صحيحة عن أَبَوَي رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار. فلما قَفا الرجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي. واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي.
أما استدلال بعض المسلمين بحديث نسبوه للرسول صلى الله عليه وسلم: قال: " لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " فهو مردود، لأن هذا الحديث لم يصح، ولم يعزه أحد ممن أوردوه إلى أحد كتب الحديث والسنن.
نعم هناك حديث نسبوه لابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لم يلتق أبواي في سفاح، لم يزل الله عز وجل ينقلني من أصلابٍ طيبة إلى أرحام طاهرة، صافياً مهذباً، لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما ". ولكن هذا الحديث أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في دلائل النبوة، وقال العلماء إن هذا الحديث واهٍ ضعيف، لا تنهض به حجة.