تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ)

تصويبات في فهم بعض الآيات - نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ)

الوصف

                                                   نماذج لآيات حرَّفوا معناها: تصويبات في مفاهيم

                                                        (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ)

قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.

تبين الآية الكريمة أن كل مجموعة من مجموعات المخلوقات الحيّة -سواء كانت دواباً في الأرض أو طيوراً في الفضاء- تعتبر أمةً مخصوصةً مستقلة، لها نظامها وكيانها وحياتها الخاصة، أمة مثل أمة الناس.

وتقرر الآية أن كل أمةٍ من هذه الأمم، ومجموعةٍ من هذه الخلائق، هي في كتاب الله وعلمه. وأن ذلك الكتاب لم يفرط شيئاً منها، مهما دقّ وصغر وقلّ. ثم تعود هذه الأمم والخلائق إلى ربها، وتُحشر إليه يوم القيامة.

فالمراد بالكتاب في الآية هو الكتاب الأزلي الذي أثبت الله فيه كل ما سيكون في السموات والأرض.

لكن بعض المفسِّرين والناظرين في القرآن لم يَحملوا الكتاب على هذا المعنى، بل قالوا: المراد بالكتاب في الآية هو: القرآن الكريم.

ويقول هؤلاء: إن القرآن الكريم حوى كل شيء في حياة الناس والكون، وإن الله لم يُفرط فيه شيئاً، ولم يُسقط منه شيئاً.

أورد الإمام الرازي في تفسير الآية القولين في المراد بالكتاب. ورجح القول الثاني الذي قال فيه: " القول الثاني: أن المراد منه القرآن. وهذا أظهر. لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد، انصرف إلى المعهود السابق. والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن، فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن ".

وقد حمل كثير من الناظرين في القرآن في هذا العصر، الكتاب على القرآن الكريم، واعتبروا الآية دليلاً على الإعجاز العلمي في القرآن -كما يقولون- وأن القرآن فيه مختلف أنواع العلوم والمعارف والنظم والمناهج والتشريعات. فكم استشهد بالآية على هذا المعنى، خطباء ومحاضرون وكُتّاب ومتكلِّمون.

ونرى أن فهم هؤلاء للآية غير دقيق، واستشهادهم بها على ما يريدون غير صائب، وحملهم الكتاب فيها على القرآن غير سليم. ونرى بأنهم جميعاً يخالفون السياق الذي وردت فيه الآية، والمعنى العام لها.

لا يمكن أن يُراد بالكتاب في الآية القرآن الكريم، بل المراد به " اللوح المحفوظ " و " أم الكتاب " و " الكتاب المبين " الذي حوى كل ما سيكون في السموات والأرض، من الأمور الصغيرة والكبيرة، والدقيقة والجليلة، في الكون وحياة الإنسان والحيوان.

ودليلنا على هذا الفهم -الذي نراه صواباً إن شاء الله- عدة أمور: الأول: الموضوع العام للآية: حيث تقرر أن كل دواب الأرض، وكل حيواناتها، وكل حشراتها، وكل طيورها، وكل أناسيِّيِّها، أممٌ مستقلة منتظمة، فعالم النحل أمة، وعالم النمل أمة، وعالم الأسود أمة، وعالم النسور أمة، وهكذا.

وهذه الأمم الكثيرة التي لا تُحصى، سواء كانت في البر أو البحر أو الجو، كلها في كتاب الله وعلمه وتقديره وتدبيره، كلها في اللوح المحفوظ، الذي حوى أجناس تلك الأمم وأفرادها وحركاتها وأعمارها وأرزاقها. ولم يهمل هذا اللوح -أو الكتاب- شيئاً من ذلك، وما فرط الله فيه شيئاً من ذلك.

وإن هذه الأمم التي لا تُحصى سوف يحشرها الله إليه. وتخيل يوم الحشر، حيث حُشرت فيه كل هذه الأمم، من الإنس والجنّ والطير والدّواب والحيوانات والحشرات، وتمَّ الحساب أمام هذه الخلائق المجموعة.

ولا يمكن أن يُراد بالكتاب في الآية القرآن، إذ يستحيل أن تكون كل هذه الأمم -التي لا تُحصى- موجودة في القرآن، بأجناسها وأسمائها وأفرادها وأعمارها وحركاتها وأرزاقها.

الثاني: وردت آية أخرى تتحدث عن نفس الموضوع، وكان المراد بكلمة " كتاب " فيها علم الله باتفاق العلماء. وهي قول الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.

فرزق كل الدّواب ومكان استقرارها ونومها وحركتها: في كتابٍ مبين وهو علم الله الشامل.

ونحن عندما نريد أن نتدبَّر القرآن، ونفهم آياته، ملزمون بتفسير القرآن بالقرآن، بمعنى أن نجمع الآيات ذات الموضوع الواحد، وننظر فيها معاً، ونستخرج دلالاتها مجتمعة.

فهاتان آيتان تتحدثان عن الأمم والدّواب والمخلوقات، وأنها كلها في كتابٍ مبين. والكتاب في آية سورة هود هو علم الله الأزلي باتفاق العلماء.

والكتاب في آية الأنعام يمكن أن يراد به علم الله الأزلي، ويمكن أن يراد به القرآن. لهذا وجب حمل آية الأنعام على آية هود، والقول بأن المراد بالكتاب في الآيتين هو علم الله الأزلي، نظراً لوحدة موضوع الآيتين.

الثالث: وردت كلمة " الكتاب " بمعنى علم الله الأزلي في غير الآيتين السابقتين، كما في قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}.

وكما في قول الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.

وهذا لا ينفي ورود كلمة " الكتاب " بمعنى القرآن الكريم، حيث وردت آياتٌ كثيرة بذلك. منها قوله تعالى: {الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.

ومنها قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.

الرابع: نفي التفريط عن الله في الكتاب، في قوله: {ما فَرطْنا في الكِتابِ مِنْ شَيْء} يدل على أن المراد به علم الله الأزلي.

قال الإمام الراغب في المفردات: " فرّط: إذا تقدم تقدماً بالقصد.

والإفراط أن يُسرف في التقدم. والتفريط أن يُقصر في الفَرَط وهو التقدم.

يقال: ما فرّطت في كذا: أي ما قصّرت ".

ولذلك يقال: خذ الأمر بدون إفراطٍ ولا تفريط. أي بدون مبالغةٍ في التقدم، ولا مبالغة في التقصير والتأخر.

وينفي الله سبحانه -في الآية موضوع البحث- عن نفسه التقصير والتفريط في علمه بالأمم المختلفة، من الإنس والجنّ والطير والدّواب والحشرات. إذ أن كل ما يتعلق بها تفصيلياً، مثبتٌ في اللوح المحفوظ.

وقد ذهب كثيرٌ من أهل السلف إلى أن المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ، وعلم الله الأزلي الذي أحاط بكل ما هو كائن.

حيث أورد إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري، طائفةً من أقوالهم في ذلك: فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، ما تركنا شيئاً إلا قد كتبناه في أم الكتاب.

وعن الإمام ابن زيد قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. كلهم مكتوب في أم الكتاب.

وأورد السيوطي في " الدر المنثور " طائفةً أخرى من أقوالهم: فعن قتادة قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}: من الكتاب الذي عنده.

وعن ابن زيد في قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}. قال: لم نغفل الكتاب. ما من شيء إلا وهو في ذلك الكتاب.

وعن عبد الله بن زيادة البكري قال: " دخلتُ على ابنيْ بشر المازنيَّيْن -صاحبيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم-

فقلتُ: يرحمكما الله، الرجل منا يركب الدّابة، فيضربها بالسوط أو يكبحها باللجام، فهل سمعتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً؟ فقالا: لا. فنادتني امرأة من الداخل فقالت: يا هذا، إنَّ الله يقول في كتابه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} ".

فقالا: هذه أختنا، وهي أكبر منّا. وقد أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونورد -من باب استكمال الفائدة- آياتٍ من القرآن تدل على شمول القرآن للأحكام والتشريعات، وتقدم الشهادة بصورة لا مطعن فيها ولا رفض ولا ردّ، لأن معناها وموضوعها وسياقها يوحي بذلك:

من هذه الآيات قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}.

وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.

وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ}. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ}.